7.04.2016

الدولة الفرد

أحد أهم الأخطاء القاتلة التي سادت في المخيلة الإسلامية في العصر الحديث النظر إلى الدولة كأنها فرد، بل محاولة تسوية الإشكالات والتعقيدات للحفاظ على صورة الفرد في النظر إلى الدولة .
الإشكالية ليست في الأحكام التي تخص الأفراد؛ بل جعل الدولة الحديثة كأنها فرد من الأفراد .. ولما حدثت أزمة العلاقات بين تركيا وإسرائيل بعد حادثة سفينة المساعدات؛ صرح أحد المتحدثين باسم السياسة الإسرائيلية بقوله: "علاقة الدول ليست علاقة أفراد".
فأحسب أن هذا يجب بحثه ولعلي أكتب شيئا منه على شكل إضاءات في منشورات لاحقة إن شاء الله .
1
في كتاب السياسة لأفلاطون (كما يرى ترجمته عبد الرحمن بدوي وهو المشهور بالجمهورية) يقسم البشر تبعا لتصور الفرد الإنساني؛ فالفيلسوف مثل العقل -وهو رأس الدولة-، الجند مثل القلب والشجاعة ونحو ذلك. وعلى هذا تضحي الدولة مثل فرد كبير.
هذه النظرة تجاوزت مساواة البشر؛ فمن تضعه في اليد مثلا هو في الواقع عاقل، في حين أن اليد ليست كذلك، ليس لها أطماع أن تحل مكان الرأس!
هذه النظرة سادت فترة طويلة نجدها في المدينة الفاضلة للفارابي، كذلك في الكتاب المنسوب لابن أبي الربيع وغيرها..
لكن انفجرت الوقائع بخلاف هذا الطرح، ومثلت الثورة الفرنسية ضربة للنظام الملكي، وكانت الفلسفات السياسية تحاول الخروج عن هذه النظرة ليؤكد روسو على وجود عقد بين عقلاء من شعب وحكومة، ليطرح لوك رفضه لقياس الدولة على الأسرة فليس الملك والدا! والسلطة الأبوية في الأسرة ليست مثل سلطته.
ليطرح هوبز حرب الجميع ضد الجميع فليس هناك عقل وقلب وشهوة! بل بشر يتصارعون مما يفرز ضرورة الدولة لمنع طغيانهم على بعضهم.
إن النظرة الإسلامية التي سادت في المخيلات الحركية عموما هي الدولة الفرد !
هناك رأس يتمثل بالزعيم ومعه جسم يسانده، ومتى قدروا فساد الرأس أو (كفره) سيتم التعامل مع الباقي كجسم واحد إلى أن يطرد أبو قتادة الفلسطيني هذا حتى في أسر وذرية الجيش!! فكلهم حكمه واحد طائفة ممتنعة.
هذا الطرح ركز كذلك على الدستور بأنه شريعة ذلك الكيان؛ فالدولة حكمها مثل قوانينها ودستورها؛ متى خالف القانون أحكام الشريعة (بنظر المقيم)؛ سينظر للدولة بعمومها بهذه الصورة.
بعبارة سيد قطب: هناك سلطان مغتصب من الإلهية! وهو سلطان التشريع ويجب رد هذا السلطان لله.
وبطبيعة الحال لم تكن التجارب النيابية في الواقع بممكن أن تغير تماما بنية الدولة؛ مما أوقع الإسلاميين في خلافات تصل إلى التكفير والتبديع الخ .
كذلك الأطروحات الريديكالية تعاملت بمفهوم الفرد؛ فالأمريكي تابع لدولته ولو كان معارضا لسياستها، لكنه يدفع الضرائب !
كل هذا يستدعي إعادة قراءة لمفهوم الدولة كذلك القانون .. بدل الجدالات الجزئية الفرعية التي تدور في فلك النظر للدولة على أنها فرد كبير!
2
إن الوقائع المتغيرة كصعود طبقة برجوازية جعل النظام الملكي يفقد صلاحياته تباعا ويتداعى في مناطق متنوعة، وبدأت الصورة التي بدت كأنها شبه أزلية في نظر كثيرين تتغير؛ فالسلطة بدأت تتوزع بتغير أدوات الإنتاج ووجود طبقة أخرى تسعى لخدمة مصالحها، فلم تعد السلطة وراثية بالط،0 لم يعد الرأس متسلسلا، لم يعد يمكن أن نفكر بطريقة قديمة.
الثورة العلمية والثقافية أفرزت أمورا أخرى إضافية؛ ففضلًا عن وعي طبقات بمصالحها وفهمها أثر السياسة عليها وأثرها هي على السياسة؛ كذلك فإن الحرب بدت كمفهوم مختلفة مع وجود التقنيات الحديثة.
فلم يعد الأمر لقاء جيش لآخر في موقع، ثم يغنم المنتصر مدينة كاملة! بل قد يعم الخراب على الجميع.
كذلك سهولة المواصلات والاتصالات عززت التدخلات الخارجية مما كان له أثره على مفاهيم كالدستور والقانون؛ صار القانون في همه الأساسي ليس العدالة فقط! بل الاستقرار! وهذا أمر لا يكاد يفطن له كثيرون وهم يتعاملون مع هذا الأمر.
ولتوضيح هذه الصورة يجب أن نترك قليلا النظرة الساذجة لمفهوم الأمة الواحدة والمجتمع الواحد؛ فاختلاف المصالح داخل المجتمع الواحد تبعا للطبقة التي تتوزع عليها السلطة جعل الأمر كأن الدستور هو اتفاق بين أمم متعددة !
كلما قل تضارب المصالح والقوميات الخ؛ يعبر القانون أكثر عن مفهوم يمكن اعتباره عدالة تبعا للثقافة، لكن كلما زادت المصالح المتضاربة؛ سيحرص القانون على الاستقرار لضمان السلم الأهلي وإن كان على حساب مفهوم للعدالة عند قسم من المجتمع، إنه فن الممكن لا دقة المفهوم هنا وإن حاول أن يصور الأمر بصيغة العدالة لضرورة الاحترام من الجميع.
فالبلد الذي فيه مسيحيون بنسبة عالية وطوائف بنسب عالية سيحرص على صورة مشتركة كحد أدنى لضمان الاستقرار، ولبنان تمثل شكلا لذلك.
بطبيعة الحال لا يعني هذا استقرارا تاما؛ فالصراع مستمر، وبتعبير فوكو: السياسة استمرار للحرب بوسائل أخرى، لكن يعني الاستقرار هنا عدم انفلات الأمر إلى حرب أهلية قد تضر مصالح الجميع ولا يمكن الحسم فيها، والتسليم بالدستور هو تسليم بعدم إمكانية الحسم، مؤقتا بطبيعة الحال؛ وإلا فتغير الظروف يستدعي تغيرا بموازين القوى، وهذا يعني سعيا لحصة أكبر في السلطة أو إمكانية الحسم خارج إطار الاتفاق.
3
بالنسبة للقانون وهو يسعى لتحقيق الاستقرار؛ لا شك أنه يتفاعل مع مفاهيم المجتمع للعدالة، لكنه يهتم أساسيا بالاستقرار، على هذا النحو منعت إحدى الدول الخمور فترة، فاكتشفت أن أسواقها ملئت بالخمور المهربة غير الخاضعة للرقابة الصحية، طبعا هذا يتبع عمل المؤسسات وضبط الحدود الخ، فصارت الإشكالية مضاعفة؛ فالكميات الداخلة كبيرة، وبنفس الوقت أحدثت مشاكل تتعلق بالصحة العامة؛ فاضطرت للعودة للسماح والترخيص لضمان الرقابة والحد من مشاكل الحدود؛ فالتهريب سيشمل المخدر وارتفاع السلاح المهرب والجريمة المنظمة.
نلاحظ هنا أن السماح وعدمه ارتبط بالاستقرار لا بمفهوم أخلاقي فردي يتعلق بالخمر.
الشاهد: التفريق بين الدولة والفرد في زاوية النظر .
واحدة من إشكاليات النظرة الرديكالية الإسلامية للدولة أنها تنظر إليها كفرد؛ فإن سمحت الخمر فهي مستحلة مثلا، في حين لا تنظر للأمر على أنه اتفاق ضمني بين قوى فاعلة على الأرض؛ فرأس المال الممنوع قد يحدث مشاكل كبرى في إطار سعيه للاستثمار حتى خارج الإطار القانوني، وهذا مثال على تهديد الاستقرار.
أما الإصلاح النيابي؛ فانهمك بإقرار قوانين وتعديل قوانين في عدم الالتفات لأمر أساسي:
إن السلطة توظف القوانين لصالح طبقة مهما كانت تلك القوانين، مثلا لو منع الخمر والربا سيظل عندنا طبقة رأسمالية تستثمر في البنوك الإسلامية وغيرها مثلا .. والإشكالات الرأسمالية هي هي في ظل هذا !بل إن أرباح البنوك الإسلامية أضعاف البنوك العادية، ووقتها سيكون الفرد مضطرا للبديل العادي وإن كان ربويا للفرار من الديون الكبرى عليه .
وأثر المسألة يظهر عند أي أزمة مالية تفرزها العملية الرأسمالية كالكساد العالمي.
إن القانون يوظف لخدمة طبقة، أعطى أمثلة تاريخية للتقريب:
كثير من المعتزلة اتبعوا المذهب الحنفي وصار القانون في خدمة المعتزلة؛ فالردة عندهم غير الردة عند الماتريدي، هذا مثال !
الدولة هي سلطة إكراهية في المقام الأول، رغم كل الصراع داخلها؛ إلا أنها سلطة إكراهية للأقل نفوذا؛ وبالتالي التعامل معها كإنسان فحسب هو كالتعامي عن جبهات متعددة.
والشكل القانوني ليس هو الشكل الأقوى في الدولة؛ بل ما يوظفه -أي الطبقة المهيمنة-، والمخالفة الأخلاقية أو القانونية -مثلًا لقد ضلوا لأنهم يحلون الربا- يتجاوز إمكانية منعه والبقاء على نفس الهيمنة أو زيادتها، وهذه نظرة مثالية تماما تلتفت للشكل وتغفل المضمون .
4
إن القانون مجرد انعكاس لمناطق النفوذ، وأي تعديل فيه دون تعديل في النفوذ نفسه ليس إلا كتغير خبر على الشاشة من حرب إلى سلام فتتغير الوقائع!
القانون هو خبر عن مناطق النفوذ، ومن أمثلة ذلك: قوانين العمل التي كانت من 16 ساعة يوميا ثم بدأت تتقلص، كيف حدث هذا؟ 
لم يحدث إلا بتقليص نفوذ الرأسمال إلى حد مؤقت، وبالتالي فالقانون يظل حدا مؤقتا في صراع موازين القوى، وبالتالي يجب التفريق بين مفاهيم العدالة المثالية، والقانون في أرض الواقع طبقا للمتغيرات.
فإن كانت الدولة سلطة إكراهية؛ فلا يمكن التعامل معها ومع الشعب بأنهما واحد، وهنا يظهر فساد من تعامل مع الأمريكي الفرد بناء على سياسة دولته التي قد يكون أول معارض لها ككثير من اليسار هناك.
ووجود طبقة رأسمالية متنفذة لا يعني بطبيعة الحال عدم وجود تناقضات بينها، ولما نقول طبقة أيضا لا نتعامل بمفهوم الفرد.
ويظهر هنا سذاجة من طالب بضرب المصالح! تخيل مثلا الاعتداء على فرع لكوكاكولا يتبعه وجود شركات كاملة للتأمين والحماية وهذا عزز من الرأسمال !
وإسرائيل لوحدها تعاقدات بأرقام فلكية لتأمين المطارات مع دول كثيرة كالهند، بل حتى بيع الخبرة والمعلومات أضحى سلعا تباع وتشترى.
فالتفكير الساذج قاتل .. والتعامل مع الدولة وكأنها فرد يذبح أي إمكانية لتغيير فعال.

ولا أريد الإطالة عليكم ..
مودتي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق