12.17.2017

منشورات عن التفويض عند الحنابلة

 12 دسمبر 2017

منشورات عن التفويض عند الحنابلة

1-التفويض مصادم لمذهب الحنابلة

لما ناقشت المنتسب إلى المذهب الحنبلي، ناقشت عين مقالته، بدل الحشو الفارغ الذي يكررونه كل حين، مذهب أحمد، ليس فقط لا يصلح معه التفويض، بل يناقضه تمامًا، بعضهم أراد الحذلقة، فقال لابد أن يكون المرء محققًا للمذهب، ليعتبر قوله، ويغفل القائل، عن آلية تحقيق المذهب أصلًا، وقد شرح بعضًا منها ابن حامد الحنبلي في تهذيب الأجوبة، لا يفترض أن يكون هناك أي تخريج يناقض نص أحمد أصلًا، ومتى تعارض تخريج فرع مع نص لأحمد، فإنه لاغٍ، وما ينسبونه إلى المذهب، خطأ من صاحبه، وخطأ في النسبة إلى المذهب.
الآن هل يوجد في مقالة العديد من المتأخرين تفويض، نعم هذا صحيح، ولكن هذا ليس المذهب، بل يقال بكل وضوح، التفويض الذي سلكه المتأخرون أجنبي عن مذهب أحمد أصلًا، ويوجد حنابلة انتسبوا إلى المذهب ولهم مقالات تناقض مذهبه، وتحقيق مقالة في المذهب يجب أن تتسق مع أصول المذهب، وأن لا تخالف نصوص الإمام، فتنبه، فلا يقال مذهب الشافعي مثلًا ترك الظاهر، فهذا لا يصح بحال وقد نص على خلافه، بل المذهب يدور حول تحقيق مقالة الإمام المجتهد، ومعرفة أصول كلامه، لإلحاق فرع بالأصل الذي سلكه إمام المذهب.
نأتي لمقالة التفويض، فتحت أي أصل من كل أصول المذهب اعتمدت، لا يوجد لها أي أصل، بل تناقض أصول المذهب، أما أصلها على التحقيق فهو أجنبي عن المذهب تمامًا، وذلك بالتأثر بالمحيط الثقافي الذي حاكى تقسيمات أفلاطون، بجعل الناس طبقات، والعوام لا يقدّر لهم أن يكونوا فلاسفة، وجاء الغزالي ليكحلها، فجعل التفويض مرتبة العوام، أما التأويل فلأهل العلم.
مرتبة العوام هذه ارتضاها بعض من حقق فروعًا في المذهب، وكان فقيهًا، لكنه في الكلام كان يحاكي الأشعرية في كثير من مباحثه، فتحصل أن هذه المقالة أجنبية تمامًا عن المذهب أصلًا، فلا تنسب إليه، بل تنسب إلى قائلها، وهي خطأ منه على المذهب وعلى الشريعة من قبل.
أما التحشيد بأن الشيخ فلان قال بذا ونسبه إلى المذهب، فكل من حشدتم لا يساوون ربع علم تقي الدين، في تحقيق المذهب على وجهه، أصولًا وفروعًا، ومع ذلك فلم أذكره حتى لا يقال استدل بمغالطة السلطة.

2-حول عبارة (بلا تفسير)، ولا كيف ولا لم، وأمروها كما جاءت

هذه العبارات التي نطق بها السلف، لا ينبغي لها أن تفهم بحال باصطلاح حادث بعدهم، بل تفهم في إطار عرفهم، وإطلاقهم، واصطلاحهم، فبعضهم تمسك بها ليستدل بها على أنها تعني التفويض، وهذا خطأ محض، وإليك أمثلة تبين بطلانه، قال الشافعي:
"لم يكن.... لأحد إدخال (لمَ) ولا (كيف) ولا شيئا من الرأي على الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رده على من يعرف بالصدق في نفسه، وإن كان واحدا ".
(اﻷم، ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ إدرﻳﺲ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ، ﺗﺤﻘﻴﻖ وﺗﺨﺮﻳﺞ: رﻓﻌﺖ ﻓﻮزي ﻋﺒﺪاﻟﻤﻄﻠﺐ، دار اﻟﻮﻓﺎء -اﻟﻤﻨﺼﻮرة، اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﻟﻰ: 1422 ﻫ -2001م، ج 10، ص 16.)
فهذا هو الشافعي يرفض الرأي، ولم، وكيف، في كل خبر، فهل يفيد هذا عند أي عاقل، أنه لا يعلم معنى الأخبار جميعًا، وقد قال فيها هذا؟ وهل يكون إمامًا أصلًا وقد جهل معنى كل الأخبار!
وقال الشافعي أيضًا:
"
وقد بين الله عز وجل في هذه الآية، وليست تحتاج إلى تفسير".
(
الأم، ج 1، ص 56.)
فعدم التفسير والاكتفاء بالآية، يكون لقوة بيانها، لا لأنها غير معلومة المعنى، فمن الأبجدي في أصول الفقه، أن النص متى لم يدل دلالة واضحة على معناه استدلوا بغيره، وفق مراتب الأدلة، وطلبوا تفسيره، بآية أخرى، أو حديث، أو إجماع ونحو هذا، فعدم التفسير يكون لعدم الحاجة إليه.
فإن "الاستفسار عند الأصوليين: طلب ذكر معنى اللفظ حين تكون فيه غرابة أو خفاء".
(
الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية-الكويت، طباعة: ذات السلاسل -الكويت، الطبعة الثانية: 1406 هـ -1986م، ج 4، ص 59.)
والتفويض حادث متأخر، بعد التأويل الذي رفضه السلف، وإنما هو موقف الواقفة عينه الذين ذمهم أحمد، وألحقهم بالجهمية، فحقيقة مذهب المفوضة، أنهم لا يريدون التصريح بعيب مذهب جهم، بل السكوت عنه، أو عيب النطق به فحسب، لا عيب معناه الباطل، وتحقيق معنى النصوص على وجهها.
فهم يسلمون بعدم المعرفة، والجاهل لا يذم معنى زعم رجل علمه، فقصارى الأمر أنه يخبر عن جهله، ولا يحق له أن يطالب غيره بأن يجهل مثله.

3-التفويض من أصول النصرانية

إن تفويض العقائد الدينية، عن الفهم ومعرفة معناها، تقليد قديم فرضته الكنيسة ومنظروها دومًا، متعاملة مع البشر كالأنعام بل أضل سبيلًا، ولذا كان يرفض البحث في الثالوث، ويعبر عن هذا يوحنا الذهبي الفم، بقوله:
"
عندما يوحي الله بحقيقة يجب علينا أن نقبل كلامه قبول إيمان، دون أن نهتم جاسرين بأبحاث متطفلة" (1)
فلا ينبغي أن تفهم، يكفي أن تؤمن فقط، ألم يقل توما الأكويني:
"
نقص المعرفة من حقيقة الإيمان"(2).
هذا الأمر حفظ الثالوث من أي نقد، ولذا قال دانتي:
"
مجنون من يحسب أن العقل البشري
يقدر على اجتياز المسلك المتناهي
الذي يجمع ثلاثة في أقنوم واحد "(3).
مما جعل كانط ليحفظ الثالوث من النقد، يقول بامتناع البحث العقلي في الإلهيات، فما ثم إلا التسليم بها، ولذا قال في مقدمة كتابه (نقد العقل المحض): " عليّ... أن أضع العلم جانباً لكي أحصل على مكان للإيمان " (4).
مما جعل نيتشه يكشفه قائلًا:
"
كانط.. ليس في نهاية الأمر سوى مسيحي مستتر "(5).
ويحكم عليه بتقزز بالغ: "الانحطاط الألماني كفلسفة: هذا هو كانط "(6).
ذلك لموقف نيتشه من النصرانية بشكل عام، تلك التي قال فيها:
"
الكحول والمسيحية، هذان المخدران الأوروبيان المشهوران"(7).
وطريقة التفويض في النصرانية، كانت بالغة منتشرة، ولذا انقض عليها كثيرٌ من النقاد، وألحدوا بها، وبما في معناها، يقول فرويد:
"
لو اقتصرتم على تأكيد وجود كائن أعلى، ((لا سبيل إلى تحديد صفاته)) ولا معرفة مقاصده، لوضعتم أنفسكم خارج منال العلم، لكنكم لن تعودوا في هذه الحال موضع اهتمام من قبل البشر "(8).
هذا الموقف اللا أدري البائس، لا زال يلقى صدى في نفوس بعض المسلمين، وصدق من قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه" فقالوا: اليهود والنصارى، قال: فمن؟!
مودتي.

4-تهافت التفويض فلسفيًا..

المفوضون درجات، أدناها أن يفوض صفة معينة في موضوع معين، مثل صفة الاستواء، العلو، في الإلهيات.
المفوض بداية لو قلنا له نفس عبارة النص في موضوع مختلف سيسلم بأنه يفهم المعنى ولا يفوضه.
ولكنه متى كان في الإلهيات سيفوضه.
*
معنى هذا أن الإشكال ليس في نفس النص، بل في الموضوع عند المفوض.
فهو يقول لا أدري في الإلهيات، في صفة معينة، بخلاف ما لو جاءت نفس الكلمات في موضوع غيرها.
*
وهنا موقف (مثالي ذاتي) أي أنه يعكس ما فيه على النص نفسه، فيجعل النص نفسه غير مفهوم، في حين أن إشكاليته قبل النص في الموضوع نفسه.
الآن لو سئل عن غير ذلك من صفات في موضوع الإلهيات كالوجود مثلا، وأثبته يكشف تناقضًا.
إذ الموضوع واحد، واللغة واحدة، هنا يكشف عما يسمّى بالمنظومة الخفية.
*
المنظومة الخفية هي نسق معين مكتفٍ بذاته يتحاكم إليها الناظر في نص، ويفهمه بناء عليها دون التصريح بها.
مثال ذلك: أن منظومته تثبت 3، 7، 10 صفات للشيء بشكل سابق على النص، ثم هو يزعم أن ما يثبته هو الواضح من النص، بخلاف غيره، مع أنها لغويًا لها نفس الدلالات.
ومع كل هذه يظل هذا المسلك يحمل تناقضًا صارخًا، فكل نص أثبته يرد عليه نفس اعتراضاته فيما فوضه، إن التفويض بهذه الطريقة ينقض بعضُه بعضَه الآخر.
لكن ماذا لو اتسق المفوض؟
*
إن اتساق التفويض يعني بكل وضوح إخراج الموضوع من (إمكان معرفته) بمعنى يضحي الموضوع كله خارج القدرة البشرية عن معرفته.
ولذا اتسق كانط في هذا، فلما فوض الثالوث اتسق وقال كل المباحث الإلهية خارجة عن العقل.
ولذا نفى إمكانية الاستدلال النظري على وجود الله، وقال بإثبات الإله كضرورة (أخلاقية) فحسب تتعلق بسلوك البشر العملي، لا مباحثهم النظرية.
*
إن موقف التفويض فلسفيًا لو اتسق لن يتوقف على إخراج موضوع معين من القدرة على المعرفة، بل يهدد القدرة على المعرفة نفسها تمامًا.
ليضحي في نهاية الأمر مسفسط، لا يقدر على الجزم بحقيقة واحدة، حتى ولو كانت وجوده هو.
مودتي.

5-في مذهب الحنابلة

أبى البعض إلا التشغيب على من نفى اعتماد التفويض مذهبًا للحنابلة، فبدأ يزخرف عباراته، وينتفخ بكلماته، وكأنه اختص من بين العالمين بتقرير معتمد الحنابلة، بل تبجح بأن المعتمد قد يخالف منصوص أحمد نفسه، على أن التمذهب بمذهب أحمد، إنما هو "السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره."(1)، وكان بناءُ صرح المذهب يدور حول نصوص إمامه أحمد بداية، فـ"الأصحاب أخذوا مذهب أحمد من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك" (2).
ثم بدأ يتندر بمن يرجع إلى أقوال أحمد نفسه، ليقول ذا غير معتمد، وإنما المعتمد مثل كتاب أحمد بن حمدان (نهاية المبتدئين) الذي اختصره ابن بلبان، والواقع أنه مجرد جمع لما تناثر في كتب الحنابلة بلا تحقيق، وهذا الرجل كثير النقل، ويقع في نقله ما هو غير محرر. كما قالوا في الرعايتين له، إذ نصوا على أن بعضها غير محرر (3).
ومن الأمثلة على عدم تحريره قوله في الكتاب المذكور:
"
تأول أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود يمين الله في الأرض" (4)
فهذا الكتاب الذي زعم اعتماده في مذهب أحمد، الواقع أن فيه تخليطًا، فـ"هذه الحكاية كذب على أحمد، لم ينقلها أحدٌ عنه بإسناد، ولا يعرف أحدٌ من أصحابه نقل ذلك عنه"(5).
فيا لها من فرحة باعتماد كتابٍ فيه كذب على أحمد، ويضحي قوله فيه معتمدَ المذهب بزعم من زعم!
وذكر اسم كتاب آخر، وهو (العين والأثر) للمواهبي، وهو كتاب فيه من التخليط العجب، لكنه أعجب البعض وصار بإعجابه معتمدًا، فهو القائل فيه:
"
الذي استقر عليه قول الأشعرية وهو موافقتهم الحنابلة في الاعتقاد" (6).
وهذا لا هو تحقيق لقول الأشعرية، ولا مذهب الحنابلة، ولو لم يكن من الخلاف إلا مسألة إثبات الحرف في القرآن غير المخلوق، لكفى به من خلاف، فأين هي الموافقة؟
ولكنه تبجح قائلًا: تريدون أن تحققوا عقائد الحنابلة من كتب ابن تيمية، بل لابد من اعتماد كتاب المواهبي هذا في المعتمد عند الحنابلة، وغفل أن المواهبي، جماع نقال، بلا تحقيق، وتجده ينقل في كتابه (المعتمد) عن ابن تيمية ويعتمد كلامه في نسبة القول بأن جماهير أهل السنة على أن الله يتكلم بصوت (7).
فإن كان هذا الكتاب معتمدًا عندهم، فها هو اعتمد ابن تيمية في تحقيق مقالة جمهور أهل السنة، ليس الحنابلة فحسب!
بل من طرائف هذا الكتاب (المعتمد بزعمهم) أن فيه التالي:
"قولهم إن القديم لا يتجزأ ولا يتعدد غير صحيح "(8).
وفي نفس الكتاب:
"
ويجب الجزم بأنه تعالى واحد لا يتجزأ" (9).

فأيهما المعتمد عند الحنابلة؟!
قال، ومن المعتمد لمعة الاعتقاد، فيقال فيه إن ابن قدامة لا يحسب كل حرف منه على المذهب، فها هو وضع مقدمة منطقية في روضة الناظر، تابع فيها الغزالي، مع أنه لم يكن متكلمًا ولا منطقيًّا (10)، فهل يقال بأن منطق أرسطو هو معتمد مذهب أحمد؟ وقد قيل بأن ابن قدامة تراجع عنها، ولذا توجد في نسخ دون أخرى، وكيفما كان فلا يحسب كل كلامه على المذهب، وفي اللمعة تناقض كلامه في أشياء، وفي غير اللمعة كذلك، ولكونه لم يكن متكلمًا، وخاض في مباحث الكلام، وقع في كلامه سقطات عديدة، منها إثبات اللفظ فحسب دون المعنى، وقد كتب ابن حامد كتابه (تهذيب الأجوبة) وهو "من أوائل ما كتب في أصول مذهب الإمام أحمد" (11)
ومما قاله فيه: "المذهب أنه إذا سئل (أي أحمد بن حنبل) عن مسألة فأجاب بتلاوة أنه يقرأها، وينسب إليه ذلك مفسَّرًا."(12)
فهذا هو معتمد المذهب، أنه ينسب إليه ذلك مفسرًا، حتى ولو اقتصر على الآية، لا خيالات من توهم.
مودتي
_________________________________________
1-
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، عبد القادر بن بدران الدمشقي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1981م، ص111.
2-
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، ص 126.
3-
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، ص 410.
4-
نهاية المبتدئين في أصول الدين، أحمد بن حمدان، تحقيق: ناصر السلامة، مكتبة الرشد-ناشرون، الرياض، الطبعة الأولى: 2004م، ص35
5-
مجموع الفتاوى، ج5، ص398.
6-
العين والأثر في عقائد أهل الأثر، عصام قلعجي، دار المأمون للتراث، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1987م، ص34.
7-
انظر: العين والأثر، ص66.
8-
العين والأثر، ص90.
9-
العين والأثر، ص 30.
10-
المدخل إلى مذهب الإمام أحمد، ص 464.
11-
من مقدمة المحقق لكتاب: تهذيب الأجوبة، عبد الله الحسن بن حامد الحنبلي، حققه: صبحي السامرائي، عالم الكتب، بيروت-لبنان، ص13.
12-
تهذيب الأجوبة، 19
.

هل المعتمد عند الحنابلة التفويض؟

11 دسمبر 2017

هل المعتمد عند الحنابلة التفويض؟

1

بداية ما هو التفويض؟ خلاصة أمره دون تطويل عبارة أن القائل به لا يدري معنى النص، ويفوض العلم إلى الله، ومن هذا التفويض جاءت التسمية، والصواب أن رد العلم إلى الله في المسألة خارجٌ عن الموضوع، فالله يعلم ما نعلمه وما نجهله، وهو أعلم منا في علمنا وجهلنا، والمفوض هو مجرد جاهل بالمعنى، أي لا يعلم معنى النص.
جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب سأل جمعًا من الصحابة عن آية فقال: فيم ترون هذه الآية نزلت؟ فقالوا: "الله أعلم"، فغضب عمر فقال: "قولوا نعلم أو لا نعلم".
وقد كان عمرُ مسددًا، فمن لا يعلم، ليقل إنه يجهل المعنى ليطلبه عند من علمه، لا أنه يكتفي بقوله الله أعلم!  فالسؤال عن علم المرء نفسه، لا علم الله.
نأتي لمسألة التفويض في مذهب الحنابلة.
فقد زعم المجيب بأن المعتمد في مذهب الحنابلة التفويض، ومن العجب أنه جعل من بين من سماهم في تحقيق المعتمد الطوفي، وهو سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الملقب بـ(نجم الدين)، وهو الذي قال عنه ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة إنه "كان منحرفًا في الاعتقاد عن السنة، حتى إنه قال عن نفسه:
حنبليٌّ رافضيٌ أشعريٌّ *** ظاهريٌّ هذه إحدى الكُبَر
ووجد له في الرفض قصائد"!
فهل مثل الطوفي يذكر في تحقيق المعتمد في مذهب أحمد؟!

2

وهذا الكاتب يناقض نفسه بنفسه، فيقول بأن "الأقوال ينبغي أن تقرر كما هي عند أصحابها"، والمذهب كله ينتسب إلى أحمد بن حنبل، فكان أول ما يفترض به أن يقرر ما قاله أحمد نفسه، قبل الذهاب إلى المتأخرين والمتوسطين، ولنأخذ مسألة واضحة تكاثرت فيها نصوص أحمد بن حنبل، وهي مسألة كلام الله.
فهل قال أحمد كلام الله وسكت وقال أفوض الأمر إلى الله؟
بل قال كلام الله غير مخلوق، ولم يرض سكوت من سكت عن التصريح بأنه غير مخلوق، وهم الواقفة، أي الذين توقفوا في المسألة، ولم يكتفِ بهذا حتى ألحقهم بالجهمية.
ثم هل سكت أحمد عن كلام الله؟ فقال مثلًا، كلام الله غير مخلوق وأفوض معنى الكلام إلى الله، بما يليق به؟
بل صرح بإثبات الحرف والمعنى وهو ما يتناقض تماما مع المذهب الأشعري.
لذا حتى من سلك التأويل من الحنابلة مثل ابن عقيل وابن الجوزي، لم يقدروا على تجاوز نصوص الإمام في هذه المسألة تحديدًا.
وتجد لابن عقيل رسالة مفردة في الرد على الاشعرية شديدة العبارة.
على أي حال، هذا مناقض تماما للتفويض في صفة الكلام، بل اثبات للحرف والمعنى، وهو إثبات لمعنى الكلام كما قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد، أي صوت وحرف ومعنى.
ومن هنا يبرز اسم ابن قدامة، فيمن ذكرهم، ابن قدامة، لم يتسق في تقرير مقالة أحمد في مسألة الصفات، فتارة يصرح بالتفويض، ولكنه هو نفسه يصرح أحيانًا بالإثبات، وعلى سبيل المثال، لابن قدامة رسالة في إثبات الحرف، اسمها (الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم)، هذه الرسالة تبين أن نسبة التفويض بالعموم إلى ابن قدامة غلط، هذا أولًا، ثانيًّا، بقطع النظر أين أخطأ ابن قدامة، لا ينبغي أن يحسب كل حرف منه على مذهب أحمد، فكيف بتحقيق مقالة رأس المذهب نفسه.

3

ولذا لا يمكن لمفوض أن يتسق في مذهب أحمد، بل سيضطر أن يصرح بالإثبات كما في مسألة الكلام معناه معلوم، كما قرره أحمد بن حنبل.
نأتي لتاريخ التفويض فلسفيًّا، فهو متأخر على مذهب التأويل في الواقع، فقد خرج من رحم التأويل، ولما تعرض له الغزالي، جعله حلًا لمشكلة دخول العوام في علم الكلام، فالعامي لم يكن يفهم معانٍ مثل الجوهر والعرض ونحو ذلك، بعد أن جعلها المتكلمون في أصول الدين، فقال له بأنه يكفي منه تفويض المعاني، فالتفويض هو موقف متأخر عن الموقف الذي حاربه أحمد نفسه.
فالتفويض كما سبق هو اللا موقف، واللا أدرية، وهو دأب العوام، فهل رأس مذهب الحنابلة كان بمنزلة العوام!؟ على فرض التسليم بصحته!
نأتي إلى طريقته في تقرير المعتمد في المذهب، فقد قال بأن الأكثر عليه، وقد سبق أن هذه دعوى، فمن وقع في تفويض صفة، سيضطر إلى إثبات غيرها فيما صرح فيه أحمد بالإثبات كالكلام، وليس القول بأنه فوض أولى من نسبة الإثبات إليه، وهو لا يمكنه إلا أن يثبت نصوص إمامه الذي ينتسب إليه.
فظهر أن قوله (الأكثر) محل نظر، حيث إن المنتسب إلى الحنبلية، مهما أول أو فوض، سيظل مختلفًا عن مفوض أشعري أو مؤول أشعري، والخلاف بينهما شديد، وأظهر المسائل في هذا مسألة الكلام، لكثرة كلام أحمد فيها، والأصل واحد، والقواعد والقياس والتخريج على قوله، إن اعتمد فيه الطريقة التي في الفروع فلن تكون لا في التأويل ولا التفويض للمعنى، وبهذا لا يصح أن ينسب إلى المذهب أن المعتمد فيه التفويض، فذا مناقض لنصوص الإمام وقواعده وقياسه وأصوله.

4


ونصوص الإمام لتكاثرها، بسبب وقوفه في المحنة، منعت المذهب أن يبتلع من معتقد غير ما قاله صاحبه، بخلاف العديد من المذاهب، التي لم تكن نصوص أصحابها كثيرة مثله في هذا الباب، ولذا تجد المخالف لهم يذكر القلة التي وافقته لا الكثرة التي خالفته، فيقول قال فضلاء الحنابلة، مستثنيًا لهم من مجموع المذهب، مادحًا لهم وبمفهوم المخالفة يقلل من غيرهم.
وهذا مذهب أبي حنيفة اشتهر المنتسبون إليه من الجهمية والمعتزلة، فهل كثرتهم في داخل المذهب، وتحقيقهم لشيء من الفروع، يجعل أبا حنيفة محسوبًا على الاعتزال والتجهم، بمحض الكثرة والقلة؟ أم يقال العبرة بما نطق به، وما يتخرج على أقواله.
نأتي لبعض ما استدل به الناسبون لأحمد إلى التفويض، فمن ذلك قوله أمروها كما جاءت ونحو ذلك مما نطق به السلف.
فهذه العبارات تفهم في إطارها، ولعل أقرب الكتب التي استعملت هذا الأسلوب رسالة الشافعي، ويقول فيها في عدة مواطن: استغني فيه بالتنزيل عن التأويل، أو التفسير، فهم يستغنون بالتنزيل لوضوحه لا لتفويضه! وعدم بيانه، وإلا فالمبهم ينبغي طلب معناه، إن لم يكن منه فمن غيره، كما هي أبجديات الأصول، فمقالة تحقق خطأ الاستدلال بها، لا يفترض أن تحسب على أنها معتمدة في المذهب.
ومن ذلك ما رووه عن طريق حنبل بن إسحق بعدم إثبات المعنى عن أحمد، فهو لا يصح لانفراد حنبل بالنقل عنه، وهو ضعيف فيما ينفرد به عن أحمد.
خلاصة الأمر، أن نسبة التفويض إلى مذهب الحنابلة، غير صحيح، ومجازفة، ولا تحقيق فيها.
والصواب نصًا من الإمام، وقواعد وأصولًا وقياسًا وتخريجًا، أنه مذهب مع الإثبات.
مودتي.

ابن تيمية بين المدارس الفلسفية

 28 أكتوبر 2017

ابن تيمية بين المدارس الفلسفية.

1

1- لما جرت مناظرة السمنية لجهم بن صفوان، كان النقاش حول إثبات وجود الله، وقد روى المناظرة أحمد في (الرد على الجهمية)، ومحصلها أن السمنية قالوا لجهم: هل رأيت ربك أو عرفته بحس؟ فقال لهم: أنتم أحياء وفيكم روح أليس كذلك؟ قالوا: نعم، فقال: هل رأيتموها أو عرفتموها بحس؟ قالوا: لا، قال: كذلك الله لا يعرف بحس، لا يرى ولا يسمع مع ذلك هو موجود.
هنا قال ابن تيمية الصواب في الأصل المعرفي مع السمنية لا جهم بن صفوان، فالإله عند جهم:
لا يرى = لذا نفى الرؤية يوم القيامة، ولا يسمع= لذا قال: القرآن مخلوق.
.....
2-
يمكن تغيير صيغة المناظرة لفهم موقف ابن تيمية أكثر.
أفلاطون المثال عنده لا يرى، إنما يعرف بالعقل أو ما يسميها رؤية العقل= ابن تيمية ينفي المثل ويقول الرؤية العقلية ليست رؤية حقيقية.
.......
3-
هيجل الإله عنده فكر الفكر، لا يرى بالعين، ولا يسمع له صوت بأذن وهو المسؤول عن خلق الواقع المادي.
ابن تيمية يقول بل المطلق لا يوجد إلا في الأذهان لا الأعيان، الإنسان يفترضه ذهنيًا وليس ذا بموجود.
ماركس لما رد على هيجل قال له الواقع هو ما يخلق الفكر لا العكس.
......
فمحصل هذا التالي:
السمنية وماركس وابن تيمية في نقيض المثالية وهم كلهم خصوم لـ جهم وأفلاطون وهيجل.
-------
الأساس المعرفي عند ماركس والسمنية وابن تيمية واحد، الآن ما الفرق بين ابن تيمية والسمنية وماركس؟
نبدأ بالهراء الكاذب بأنهم يتفقون على نفي المعقولات (مثل كلام فودة).
وهذا كذب على الجميع فهم ينازعون بوجود المثل في الخارج لا في الذهن وليس منهم أي وضعي.
أين الخلاف؟
ماركس والسمنية مشكلتهم أنهم صدقوا المثاليين بأن اللله يجب أن يكون مثاليا أو مطلقا لا يشار إليه ولا يمكن معرفته بحس.
ومن هنا نفوا هذا الإله، ولما انحصر عندهم الواقع بغير الإله قالوا نؤمن فقط بالواقع هذا ولذا فبقوا منحصرين في (الدنيا) باعتبار الآخرة مثالية.
ابن تيمية يسلم معهم بنفي الإله المثالي، ولكنه يثبت الله على أنه قابل للحس بل ووقع الحس بمعرفته مثل سماع الوحي فقد كلم الله موسى تكليما، والكلام عنده حرف وصوت، وسمعه موسى.
الان لو صح ما قاله عند السمنية وماركس لم ينازعوه فيه، فهو مدرج تحت أصلهم المعرفي الواحد.

2

يسأل بعضهم ما فائدة هذا في الرد على الأشعرية مثلا، فيقال هذا بناء فلسفي يواجه ترسانة جدلية كلامية، ومن هنا كان الأصلب في مواجهتها وغيرها.
نأخذ بعض الفوائد التي حصلها ابن تيمية في هذا الجانب:
1.   معارفنا العقلية أساسها حسي، ومن هنا فهي تتحرك في إطار المحسوس فقط، فإن كان الإله غير قابل للحس، بطل الاستدلال العقلي عليه، كونه خارج أدوات البحث العقلية، (سيعيد هذه الصيغة كانط فيما بعد في نقد الأدلة على الإله غير المحسوس).
ومن هنا لما سلمت الأشعرية بأن الله لا يشار إليه، يقال لهم بأي شيء استدللتم عليه؟ متى قالوا بالعقل، قيل وأصل معارف العقل الحس، فمتى سلموا بهذا سلموا بامتناع إثبات إلإله المذكور بما سبق، أو جرت مناظرتهم في هذا (والمدرسة الأشعرية لا يوجد عندها هنا نظرية موحدة ومتسقة).
2.   لما كتب فودة (حسن المحاججة) استدل لإثبات موجود لا يشار إليه بالوجود الذهني مثلا تقول 2 أو 4 هذه لا يشار إليها، والمثل ذا قديم قدم المثالية، ومن هنا يطالب بالتفريق بين الوجود الذهني والواقعي الخارجي، فمتى قال الحس أبطل دعواه في الإله بأنه لا يشار إليه، وإلا لم يحسن التفريق بين الوجودي(الذهني والخارجي).
__________
ويمتد أثر نظرية ابن تيمية إلى فروع كثيرة، فهو إنشاء فلسفي لا كلامي، وعلى سبيل المثال يمتد إلى فلسفة العلم، فما هو علم بواقع محدد وما هو الافتراض الذهني، وما الفرق بين حقيقة علمية وبين نظرية فيها شيء من الافتراض غير المثبت.
كذلك يمتد إلى علم الاجتماع، وفصله عن الإلهيات ونحو ذلك، حيث يفرق ابن تيمية بين فعل الله ومفعوله، ومن هنا فيمكن فلسفيا دراسة الاجتماع دون تناقض فلسفي مع الإلهيات بالخلط بين فعل الله ومفعوله.

3

مع موقف ابن تيمية الفلسفي ومقاربته لطرحه مع السمنية نجده يقرر استقلال البحث الفلسفي عن الموقف الديني ولا يعني هذا التعارض بينهما، والخلط بين الأمرين عانت منه أطروحات كلامية عديدة، وتوضيح ذلك بالتالي:
1.   الطرح الأشعري يحطم البحث الفلسفي في العديد من المواضيع، ومن أهمها فلسفة الأخلاق، حيث إن الأشعري نفى التحسين والتقبيح العقلي، ومن هنا تمتنع فلسفة أخلاقية مستقلة بخلاف ابن تيمية، حيث يقول بقدرة العقل عليه ومن هنا إمكان وجود عدل مع الكفر.
2.   يوسع ابن تيمية مضمار البحث الفلسفي بالتقارب مع السمنية حيث يلغي بذا ادخال عامل الإيمان في وصف نظرية معينة، فقد يكون المرء مؤمنا ومع ذلك فلسفيا كلامه متهافت والعكس صحيح، وهذا تقريبه يكون بتخيل صنعة مثل النجارة قد يمهر فيها الكافر ويخطئ فيها المؤمن.
3.   تفريقه هذا مهم لتحصيل عدم التكفير بين المسلمين بخلاف فلسفي، بخلاف من يكفر غيره مثلا لإنكاره الجوهر الفرد على سبيل المثال، كما أنه يبطل تصحيح منظومة فلسفية لإيمان صاحبها، أو اعتقاد إيمانه لصواب طرحه الفلسفي.

مودتي

سفسطات المتمسح بالبحث الفلسفي في أصل المعرفة والتعقل

 26 أكتوبر 2017

سفسطات المتمسح بالبحث الفلسفي في أصل المعرفة والتعقل

1

في كل بحث متمسحون، وآخر الصيحات تلصق مهذار بالبحث الفلسفي، لا بل في أحد أعمق مباحثه، تجده لا يعرف غير الحشو، فتبحث عن جملة مفيدة في مقاله فلا تكاد تظفر بواحدة، فإن ظفرت بعد عناء كان باقتباس عن غيره لا جهد له فيه إلا نقله.
فقال أرسطو، ونسب إلى ابن رشد والله أعلم بصحته عنه! وقال الأمير عبد القادر، حشو لا علاقة له بالمبحث.
ثم أخرج أضغانه، بعيّ لا يحسن بيانه، ولو سكت عن النيل من خصومه، لكفى بسطوره منادية عليه بالإزراء، لكنه جاهل صائل، فرمى خصومه بالسفالة والنذالة والتعصب والسوقية.
لماذا؟ لأنهم لم يقولوا بالمعرفة القبلية، ومن قبل رماهم بالمتأسلمين والإلحاد، فهناك مناقشون يبحثون عن الحق وهناك من يبحثون عما يظهر خزيهم، فيقال له هون عليك، فلعل خصومك يسلمون لك بالأوصاف التي رميتهم بها بأنها قبلية فيك، ويلتمسون لك الأعذار إذ لا كسب لك فيها، فلم ذاك الحرص منك على إثباتها، فما هذه بالتي ينازعونك فيها!
ثم تحذلق قائلًا عن نفسه:
"
نحن أهل دين فلسفتنا وفكرنا عقيدتنا"!
فيقال: لا تحسن البحوث الفلسفية مع تصدرك فيها فذا لعله جبر بلادة، والناس يتفاوتون في الأذهان، لكن أن تخلط في مسائل الشرع فبذا يتوجه الإنكار عليك، فليست العقيدة فلسفة حتى تجعلهما واحدًا، بل العقيدة الإسلامية وحي، والفلسفة جهد بشري ومنتجات عقول، فلا يجوز وصف المعتقد الديني الإسلامي بأنه فلسفة، لكن هناك فلسفة توافق المعتقد تعبر عن معاني العقيدة، وهي الفلسفة الصحيحة التي توافق ما جاءت به الرسل، أما العقائد فتلك ما قالته الرسل، وهي مستقلة عن الفلسفة.
وكما يوجد شعر عبر عن عقائد الإسلام كشعر حسان بن ثابت، لكن لا يقال شعرنا عقيدتنا ولا عقيدتنا شعرنا! فالعقائد مستقلة عن الشعر.
فعرفت أنك تخوض فيما لا تحسنه لا شرعًا ولا عقلًا؟
ثم يقال: على هذا من جحد كلامك في الفلسفة فقد كفر بعقيدتك، أليست فلسفتك ودينك واحدًا؟
ولما كانت فلسفتك منك وعقيدتك تنسبها إلى الله، فكلامك فيها يكون كلامه تعالى، وأمرك أمره، ونهيك نهيه، فإما أنك تدعي العصمة حتى توفق لهذا، أو الحلول حتى يتحد الأمران، أو أنك مهذار وهو المختار، التماسًا للعذر عن المسلمين، ورفعًا للتكليف عن المجانين.

2

ولم يكن للمسفسط يومًا وزن ما في معترك مسألة إثبات القبليات أو نفيها، ولكنه أحب ركوب الموجة، وغرّه عامة رفعوا من شأنه، فبدأ يعزف لحن كلام أمثاله المعهود بأن مخالفيه متأسلمون، فلمّا قوبلت جلبته بما يضعه عند حدّه، غيّر من صيغة ردّه، فقال عنهم بأنهم "الظاهرة السلفية الجديدة"، وأنهم "هواة الفلسفة من السلفيين"، فهل السلفيون يرادفون عنده كلمة متأسلمين؟
فحكمه على مخالفيه بأنهم هواة في الفلسفة، لنفرض صحته فيهم تمامًا، فليس من نواقض الإسلام أو منقصات الإيمان أن يكون المرء هاويًّا في الفلسفة! وهب أنهم أخطأوا في مسألة فلسفية، فهل يقال في المخطئ بالرياضيات متأسلمًا؟ يتصنع الإسلام وليس منه، فهذا الرجل مهذار، وأحكام الله ليست تابعة لحق العبد، حتى يكفّر أو يفسق من يخالفه، فكيف وهو المخطئ؟ وليس بأهل لأن يبحث في مثل هذه المسائل، وإنما تنبئ مسارعته في الطعن بتدين الخلق، بخفة عقل وغمط الناس وبطر الحق، وتوجه الإنكار عليه بتشبعه بما لم يعط.
ومن فرط تواضعه تعيير مخالفيه بأنهم في مرحلة طلب العلم، فأشفق عليهم دخول الفلسفة "في وقت لا يجب عليهم فيه تبني الآراء الفلسفية لأنها مرحلة طلب"، ولكن طلاسم ما سطره فقد كتبها "لطالب علم حقيقي عنده شغف بالعلم"!
فيقال له ها وقد اعترفت لهم بالطلب، فهم لا يرونك إلا في بطالة وشَغَب، والعلم من المحبرة إلى المقبرة، أما هو وقد اعتبر نفسه قد انتهى، فبمثله يتندر أولو النهى.
وأسهب حشوًا بما لا تحرير لموضع النزاع، ولا يظهر أنه فهم أصلًا معنى المثالية والمادية، وبدأ ينسخ ويقتبس، وزعم أن فلسفته فوق المثالية والمادية، بحجج خطابية لا محصّل تحتها، ولا معنى فيها غير الحشو والتطويل، وضرب مثالًا بالروح بأنها غير معلومة إليه، وبعبارته بأنها " ليست على مفهوم الروحانية، ولا على مفهوم المادية".
مع أنها على مفهوم المثالية التي يسميها روحانية لها مفهوم ككونها غير متحيزة فليست في الجسم ولا خارجه، وعلى مفهوم المادية قال فيها ابن تيمية:
"الروح التي فينا جسم يتحرك"(بيان التبليس،ج4، ولو كان لا يمكن أن توضع في أي مفهوم ما وصفها بالجسم!
ويذكر أن ابن تيمية أثبت ضروريات لا علم قبلها، والسؤال لا عن علم قبلها، بل عن سبب تلك الضروريات، فكأن السؤال عن السبب مرادف للسؤال عن علم قبلها! فإن لم يكن لها سبب فهذا يعني أنها ليست مخلوقة، وإن زعم أن لها سببًا، فمن قال بأن السبب ينحصر بنظر واستدلال! فما هو سببها؟ 
ابن تيمية ينص صراحة أنه الحس الباطن والظاهر، ويساوي بينهما في نقل المعرفة، وأن الدماغ هو ما ينتجها، بدون تطويل فارغ.
لكن المسفسط يقول: 
"المحسوسات الظاهرة، فهذه ضروريات بعدية ليست أولية قبلية، بخلاف الحس الباطن"
فيا لتحرير النحرير! فها هو أظهر براعته..
الحس الباطن قبلي، أما الظاهر بعدي، وهكذا حل المشكلة تمامًا، على هذا تعريف القبليات عنده: هي ما أفاده الحس الباطني!
إن أحس بالجوع أو العطش أو الحزن، والغضب لا والحسد والإخلاص والخشوع والتوكل، والخوف، والمحبة، قبل أي شيء كان هذا!
قبل التجربة وقبل المادة وقبل وجود الإنسان نفسه!.
هذا الرجل لا يتصور المسائل.
ص560.)

عن المعارف القبلية

 11 أكتوبر 2017

عن المعارف القبلية

1

هناك سؤال يقول:
(
سؤالي عن المعارف البعدية لم أورده لأنني أتبنى المعارف القبلية ولكنني أوردته لأن هذا السؤال هو عمدة المذاهب المادية الإلحادية. ولا يخفى عنكم أن من يتبنى المعارف القبلية يرد على كلامكم بأن ما تأخذونه عليها من كونها لا تعتمد على أي محسوس هو عين تميزها لأن مصدريتها تتعالى على الحس والمشاهدة ولا تخضع لهما وتنفصل عنهما.)
: كونها تتعالى عن الحس والمشاهدة هو سبب الإشكال فيها، وحتى نعرف المقصود بالمذاهب المادية الإلحادية التي تصبح شماعة يعلق عليها عدم الاتساق الفلسفي يقال:
كما هو معلوم هناك وجود ذهني، وهناك وجود واقعي خارج الذهن، والفلسفات المثالية تخلط بين الوجودين سواء زعمت وجود الذهنيات الكلية في الواقع الموضوعي مثل فيثاغوروس، وأفلاطون وغيرهما، أو تنطلق من الوعي الذاتي كباركلي.
فما الضابط للوجود الذهني والواقع الخارجي؟ الماديون يقولون إن الواقع يمكن معرفته بالحس، على سبيل المثال الحصان الفردي يمكن الإشارة إليه، يمكن مشاهدته، وله صفاته الخاصة به فهذا حصان أسود ذلك أبيض ذلك كبير ذلك وسط.
أما نوع الحصان فلا يمكن أن نحس به في أي زمان، ولا في أي مكان، كذلك حصان مطلق يعم الأحصنة جميعًا على سبيل البدل، لا باستغراق العموم كما هو الكلي المنطبق بالشمول.
هذا وجود ذهني ولا وجود له في الخارج.
المذاهب المادية إنما ألحدت بالإله المثالي الذي قالت به الفلسفات المثالية، كفرت بإله لا في العالم ولا خارجه، لا يشار إليه، لا يمكن الإحساس به.
هذا وافق عليه ابن تيمية فهو تابع للفلسفة المادية يقرر أن كل ما لا يقبل الحس ليس موجودًا في الواقع.
نأتي إلى القبليات، المثاليون لكي يثبتوا هذا الإله المزعوم خارج الذهن كما هو عند أفلاطون مثال المثل، أو عند أرسطو مفارق لا يتحرك لا يمكن معرفته بالحس، انطلقوا من معرفة مزعومة لا تمر عن طريق الحس، فقالوا نبدأ من المتعالية عن الحس ذي ونتسلسل إلى أن نصل إلى إثبات المجردات الخارجية تلك، ووردت عليهم مشكلة كبيرة كيف يمكنهم إذن معرفة الواقع المحسوس؟
أفلاطون كان الأكثر اتساقا فيضحي عنده الواقع المحسوس شبحي، غامض، لا يمثل معرفة حقيقية، ومن هنا قال كانط بأن فضيحة المثالية أنها مضطرة أن تتعامل مع هذا العالم، دون أن يكون فيها أي دليل عليه، بل مجرد الاعتقاد بأنه موجود.
أما أرسطو فقد وقع في ثنائية فلسفية يعني يثبت عالمين متوازيين،عالم مثالي وآخر مادي،دون أن يقدر على إقامة علاقة بين العالمين، ولذا فهو قلل قوله بأي ارتباط بينهما فالإله لا يعلم هذا العالم فقط يعلم نفسه ولم يخلقه انما يحركه وكيف يحركه بعشق الموجودات له.
فالقبليات ربيبة هذه المذاهب التي أثبتت آلهة هي في الواقع مجرد تقدير ذهني لا توجد في الواقع.
أما ابن تيمية فخالف الملحدين من الماديين في الزعم بأن أي إله ليس إلا مثالا كما يقوله المثاليون بأنه محض فكرة ذهنية، بل قال يوجد إله في الواقع يمكن معرفته بالحس وقد كلم موسى تكليما وأرسل الرسل بكلامه وكلامه يدرك بالحس فهو صوت وحرف ومعنى.
كما نصر أن المؤمنين سيرونه حقيقة يوم القيامة.
ورفض جعل الغيب مرادفا لغير القابل للحس، كما قاله بعضهم في تفسير الميتافيزيقا، بل هو قابل للحس، والغيب ليس إلا نسبة إلينا لا أنه بذاته غير محسوس.
فإن صح التخويف بالإلحاد لنفي القبليات فهو الألصق على القائلين بها، وسلفهم فيها أحدثوا في الأديان من تحريف وتمهيد للنفي الصريح ما هو عظيم.

2

سؤال يقول:
(ما الذي يجعل الوظيفة العقلية المتمثّلة في التجريد ثم التعميم المرادف لقياس التمثيل والتي أنتجت المعرفة الضرورية المابعدية من المحسوسات العينية يقينية ضرورية وهي لم تختبر كل محسوس، وكأننا جعلنا مرجعية الضرورة هنا يعتمد على العقل مرة أخرى ولكن كأداة اكتساب وليس كمعرفة قبلية وهي درجة أقل!..ثم هم يزايدون في هذة النقطة ويقولون سلمنا لكم بأن التعميم العقلي بين المتماثلات يقيني بذاته، فلماذا تستخدمون تلك المعرفة الضرورية في تقرير السببية على ما هو خارج هذا العالم مثل إبطال التسلسل في الأسباب الخارجة عن هذا العالم والتي قد تفتقد المثيل لها في عالمنا هذا؟!)

 يقال: في هذا السؤال أكثر من شق، لنأخذ المسألة الأولى كيف يقضي العقل أصلا بتماثل الأشياء، بتكرار التجربة، لابد من تكرار للرصد الحسي حتى نحكم بصفة عامة، مثلا الخشب يقبل الاحتراق، هذه ليست من مرة، بل عدة مشاهدات، ترصد فيها السبب والمانع والشرط، وتجرد من كل هذا قوانين علمية، أو يكون الرصد أعم من ذا للوجود فتجرد قوانين للفكر ونحو ذا.
وتحكم بصحة معرفتك لا بانطباقها على الواقع، بل لأنها تابعة للواقع نفسه، ولما شكك ديكارت بالحواس مثلا، قال بأننا لو وضعنا ملعقة في كأس من زجاج، وملأناها بالماء إلى النصف، فإننا سنرى الملعقة مكسورة، لكن لو أخرجناها ستكون بلا كسر، أو لو أمررنا إصبعنا عليها وهي في الماء لن نلحظ أي كسر، وما قاله هنا محض مغالطة، حيث شكك بالحواس للخداع البصري ولم يجد أن يحتج على أن ذلك خداع إلا التجربة الحسية بالبصر أو غيره، فعاد إلى التجربة.
الشاهد أن التكرار هو الذي يبلور الكليات وليس مجرد مدخل حسي واحد، بل يكون من عدة جوانب في ظروف متنوعة نستنبط منها قانونا.
القضية الأخرى أننا لم نرصد كل محسوس، وحول هذا قيل هنا معضلة الاستقراء، وهذا محض مغالطة فنحن لا نقوم بالتعميم بمجرد الاستقراء حتى تحصر مشكلة التعميم بالاستقراء، إنما نقوم بذلك عن طريقين في المقام الأول التمثيل والأولى، فالحريق بورقة نقضي بأنه سيشد إن زدنا أوراقًا أخرى عبرة بما سبق أن عرفناه من خواص الأشياء، وبالأولى إن كان بغابة قابلة للاحتراق، فأين الاستقراء هنا،إنما هو مثل وأولى.
فما جردناه من التجربة يتبلور في العقل، ويعمم تجارب أخرى زادت أو تماثلت.
ولما عرفنا عددا كبيرًا من الأحصنة مثلًا بأنها ليست لاحمة (لا تأكل اللحم) وأهداك شخص حصانًا فلن تقدم له اللحم، اعتبارًا بأنه مماثل للأحصنة التي خبرتها وليس هذا من مجرد الاستقراء بل العقل أدرك خاصية في نفس الحصان أنه ليس لاحمًا عن طريق ملاحظة صفاته كالأسنان والحافر، وغياب الناب والمخلب فعلم أنه غير مهيء للافتراس.
فالعقل يطرد المعين إلى كليات بالمثل والأولى، أما آليات معرفة المثل والأولى فقد استلها العقل من الواقع أيضًا، فلما يجد حصانًا أبيض وآخر أسود مع تماثل في الصفات يقضي بأن اللون ليس مؤثرًا في تماثل الأحصنة بأنها ليست آكلة للحوم.
وهكذا يفكر في الأمور الدقيقة بشكل تجريدي أكبر، ويصبح يسبر ويقسم وينقح المناط ونحو هذا بما استله أساسًا من الواقع.
أما القول بأن هذا يجعل العقل مجرد آلة اكتساب فهذا غير صحيح، إذ العقل يعمم الجزئي عن طريق الحس ويطرده ليقيس ما غاب على ما شهد، ولو كان محض آلة اكتساب لبقي من جزئي إلى جزئي لا إلى كلي.
أما الإشكال الأخير كيف سيتم طرد السببية مثلا في عالم غير عالمنا المحسوس، فهذا السؤال قائم على ثنائية فلسفية تحسب أن العالم هذا مادي وغيره مثالي.
وهذا باطل، فالمادية ترى الوجود كله بمعيار لا يخرج عن وحدة كونه موجودًا وضابط ذلك الحس، ومن هنا يقول ابن تيمية بتشابه كل الموجودات من وجه دون وجه، وقابليته للحس هذا أخص مواطن الاتفاق بينها بحيث لو كان شيء لا يمكن رصده بالحس فهو ذهني ليس واقعيا في الخارج.
ومن هنا فقانون السببية في كل الموجودات بجامع قابليتها للحس، إما بالمثل أو الأولى، وابن تيمية لا يستعمل إلا الأولى في إثبات الله.
بل ويستعمله في إثبات اليوم الآخر.
فكل الوجود لا يختلف من حيث قابليته للحس وإلا لم يكن موجودا.
ولما زعم المتدينون المثاليون عالما مختلفا بقابلية الحس عن العالم المحسوس، حكم الماديون بنفي ذلك العالم في الواقع، وقالوا هو في الذهن فحسب.
ووردت عليهم كيف سيطبقون السببية في عالم غير محسوس، فزعموا قبلية هذه المعرفة وهي توقعهم في مشكلة مع العالم المحسوس.
كيفما دار فإن إثبات القبليات مخالف لابن تيمية تماما اتفقت معه أو اختلفت.
ولنتفق على عدم تشويهه مراعاة لفكرة تراها واردة على طرحه وقد لا تكون واردة بنفسها.
مودتي
.