7.04.2016

فلسطين، الحلقة الفلسفية الغائبة!

10نونبر 2015

فلسطين، الحلقة الفلسفية الغائبة!

1

 كثير من المسائل المطروحة اليوم بين الناس، تستثني في طرحها التاريخ، والخطابات التي حواها، وأهم ما حواه التاريخ العربي، والوطني، والإسلامي، تلك الخطابات التي تناولت موضوع فلسطين مثلا، وتكثفت وتكدست، وتفاعلت وتم توارثها متوزعة في اللغة والإيماءات والإنفعالات، فضلا عن الخطابات الرسمية والحزبية، والشعبية.
ثم لغياب التفكير الفلسفي تجد مواقف متصارعة في المتلقي، يقرر شيئا ما في موضوع معين، ثم يقرر غيره في آخر وهكذا، الا ان الفلسفة تسعى للوضوح والعمق، وتكوين آراء متسقة لا مجرد آراء.
اليوم نحن بحاجة للحفر في تاريخ الخطابات، وهي تلقى بأطنانها المكدسة لتشكل عقبة أمام الرؤية الفلسفية المتسقة، ومن هذه العقبات الرئيسية ما تم تداوله ويتم عن فلسطين، ثم يتم تجاوزه في غيرها، على أن ما يقرر في موضوعها هو لب المسألة خلال الطرح الأخلاقي الفلسفي وتكوين الفكر السياسي ونحو هذا، خصوصا ان قضية فلسطين هي من أقدم المسائل التي تحدث فيها العرب والمسلمون.
ولست هنا باحثا عن الحلول بقدر تسليط الضوء على الإشكالية نفسها، ومن تلك الإشكاليات الأخلاقية التي نجدها في الأدبيات التي تحدثت عن فلسطين ما تصوره قصيدة شعبية فلسطينية: "من سجن عكا طلعت جنازة محمد جمجوم وفؤاد حجازي، جازي عليهم يا شعبي جازي المندوب السامي وربعه عموما! "
هذه القصيدة تتحدث عن الانتداب البريطاني بعد إعدام ثلاثة مناضلين ضد الوجود البريطاني والشاعر الشعبي يطالب بمحاسبة (محاسبة ثأرية) المندوب السامي البريطاني عليهم وربعه اي شعبه وقومه عموما! دون استثناء.
هذه القصيدة تجذر مبدأ محاسبة الشعوب بلغة شعبية مقابل ما تتصرف به حكوماتها، وهذا ما سيكون أصلا أصيلا في الخطابات التالية فيما بعد وينعكس على خطابات كثير من الإسلاميين في مراحل متأخرة عن هذه!
ودون البحث في التاريخ لا يمكن ان يفهم تبرير كثير من الأطروحات بمجرد قالبها التي سيقت فيه، فهنا الشاعر يعبر عن مسلمة تسبق اشتهار فتاوى ابن تيمية مثلا! بل هذه القصدة تعبر عن مطلب متجذر تعاقبت عليه الخطابات القومية والوطنية قبل الإسلامية، ولا يمكن إعفاء واحدة منها..
طبعا لا ننس الخطابات القومية التي كان يلقيها عبد الناصر فيما بعد، وما يذاع عبر صوت العرب (تجوع يا سمك)، كلها تشكل نظاما يتم توريثه، وما القالب الإسلامي إلا صورة واحدة في التعبير عنه..

2

فضلا عن مبدأ محاسبة الشعوب عموما كان هناك طرح التخوين للأنظمة العربية، بتحميلها مسؤولية حرب 48، وكانت الخطابات وأخصها (القومية) تخوينية في تعاملها مع الأنظمة التي خاضت تلك الحروب، لم يطرح الموضوع على أنه ضعف بل على انه خيانة، ولم يصور على أنه حرب، بل هي (مسرحية)، هذا ما سينعكس فيما بعد على خطابات تالية، لم تكن وقتها اللغة (تكفير) لكنها كانت تخوين، ثم تصير المسألة فيما بعد تطرح بطريقة (كفر) إنها عملية تعبير مختلفة، وهذا ما يفسر سهولة انتقال واحد مثلا من المعسكر القومي إلى المعكسر (الحركي الإسلامي) إنه نفس نظام الخطاب، فلا يضيره أن يقول إن تلك الأنظمة خائنة أو بلغة دينية (كافرة) مرتدة!.
إن تعاقب عملية التخوين يصعب تتبع جذوره لكنه حاضر في الخطابات التي اعقبت 48، في الجانب القومي الاشتراكي، وفيما بعد هزيمة 67 كانت في لغة الفصائل الفلسطينية، وأدبياتها، اللغة ذاتها ستتكرر مع الفصائل الفلسطينية ذاتها.
تأثير الخطابات المطروحة في فلسطين لا يظل حبيس المنطقة، فلا ننس مثلا أن رجلا مثل (المقدسي) أصله فلسطيني، فكثير من كتاباته ستكون متأثرة بالخطابات التي تفرزها مسألة فلسطين.
كانت الحلول التي تقدم بعد كل فشل في موضوع فلسطين، أقرب لانتظار المعجزات منه إلى تفكير نقدي واقعي، وأحد السياسيين عبر عن هذا بقوله: العرب يريدون الاتحاد السوفييتي أن يحارب عنهم، ويريدون من الولايات المتحدة أن تفاوض عنهم!
هذا شبيه بنمط أحد الأدعية المشتهرة: اللهم اضرب الظالمين بالظالمين وأخرجنا سالمين غانمين! الظالمون هم الفاعلون = وهم سالمون غانمون!!
كان الميل نحو الاشتراكية بوصفها خطا ثوريا ضد الامبريالية العالمية، يمر بمراحل ارتجالية وكمثال على هذا، ما سطره عبد الناصر في كتابه (فلسفة الثورة) كتيب هزيل، أشبه بخطاب عام يمكن لأي يساري أن يقوله في جمع من الناس فتسميته بفلسفة الثورة يظهر حجم الفلسفة النقدية في تلك الفترة في الخطاب القومي.
الخطاب القومي الذي سيساهم بشكل كبير جدا في ما يعرف بنظرية المؤامرة ففي عهده ستطبع بروتوكولات حكماء صهيون مثلا الأمر الذي سينعكس حتى على النمط التحليلي في الخطابات التالية التي تعبر بلغة إسلامية عن المؤامرة وتبحث في النصوص ما يسعف في تغليفها وتبريرها دينيا.
انتظار حلول اعجازية سيطرح في كتابات قديمة مثلا مصطلح (الأيدي المتوضئة) بأنها ستكون العامل الحاسم والتام في موضوع فلسطين، وهذا ما سينعكس فيما بعد بالتركيز على أن الموضوع سيحله شباب يعرفون الله يصلون ويصومون.

3

نظرية المؤامرة والطرح الذي تبناه عبد النصر عدم الانحياز، وانتظار التحرك بين السوفييت والولايات المتحدة سيكون حاضرا في طرح بقالب إسلامي، وإن كان مغرقا بالنظرة الإعجازية والمؤامرة، ورغم سذاجته إلا أنه يعبر عن عملية التحرك داخل المنظومة الخطابية ذاتها، إنه طرح مصطفى شكري مؤسس 'جماعة المسلمين' ويصور عبد الرحمن أبو الخير طرح شكري في المسألة في مذكراته فيقول بأن شكري اعتقد بأن العالم سيتجه نحو حرب كبرى لا تبقي ولا تذر، يعود الناس بعدها إلى السيف ووقتها تتحرك جماعة شكري ويأذن لهم بالقتال!
الطرح الوطني الذي تتحرك فيه فتح سيستلم الراية من عبد الناصر ويفعل خطاباته ليعبروا عن ذلك بقولهم ' الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد والاستراتيجي للتحرير' هذا النص سيتكرر نفسه دون أي تغيير يذكر سوى 'الكفاح المسلح' ليصير النص 'الجهاد هو الطريق الوحيد والاستراتيجي للتحرير' فيما بعد في ميثاق حماس في الثمانينات.
وبعد خطابات القوميين بضرورة توحيد الوطن العربي لتحرير فلسطين سيتحرك في إطار الخطاب 'تقي الدين النبهاني' ليؤسس حزب التحرير 'والاسم بحد ذاته يعبر عن مسألة تحرير فلسطين'.
وكما كانت الخطابات القومية متاثرة بالطرح اللينيني ستتردد أصداء ذلك التأثر في خطابات الحزب ويطرح التكتل الحزبي بهيكلية متسقة مع نمط الأحزاب الثورية الاشتراكية.
سيؤلف التكتل الحزبي ليبين خطوات استلام الحزب للحكم، بل ويسعى لنظرية معرفية في كتابه 'التفكير'.
ليغدو الهم القومي في التوحد للتحرير يعبر عنه بطريقة إسلامية وبدل دولة قومية يطرح الخلافة الإسلامية..
ومن الأمور البارزة في عملية التأثر بانقلابات القوميين ما يطرحه الحزب منذ تأسيسه إلى اليوم من خطاباته إلى 'جيوش المسلمين' للتحرك لاستلام الحكم.. والتحرك لموضوع فلسطين.
كانت خطابات فتح تنشر فتاوى ان الجهاد فرض عين.. بل واستوعبت في صفوفها شخصية سيكون لها تأثير كبير في بلورت المسألة.. إنه عبد الله عزام.
وكان موضوع الاعمال التي تقوم بها الفصائل من دول الجوار تطرح إشكالية فلسفية وهي إذا كان الانطلاق واجبا فما مبرر جر العدو الى المناطق التي ينطلقون هم منها.
من بين الفصائل كانت الجبهة الشعبية والتي سيتردد في صداها طرح الماركسيين المختلفين مثل طرح تروتسكي حول الثورة الدائمة.. سينظر كثيرون منهم الى الانظمة باعتبارها امتدادا للامبريالية.

4

الطرح الثوري يفتح المجال للتركيز على الواجب (الحتمي /اللازم) لاستثارة الجماهير، وعادة ما يفرز إشكالية حاول حلها لينين، ماو تسي تونغ وغيرهما.. وتتلخص بالتالي:
إذا كان القيام بالثورة لازما، دون مراعاة لنظام تتحرك منه فلا تعابر إذنه ولا مصالحه، فلماذا ستراعي أي نظام آخر حتى ولو أفرزته الثورة نفسها، اصطلح على هؤلاء بالفوضويين إنهم ينطلقون دون مراعاة للظروف بل أحيانا كثيرة دون مراعاة حتى للجانب السياسي إنهم يؤكدون على ضرورة العمل ذاته، في حين أن السياسي يركز على نتيجة العمل ووقته وظروفه التي تزيد من نتيجته.
هذه الإشكالية سيواجهها الفلسطينيون أينما حلوا ولذا سينظر إليهم من النظام الذي يضيفهم على أنهم مصدر محتمل للإزعاج وجر ما لا يحمد على مصالحه.
إنهم ينطلقون لقتال العدو الذي سيرد في أراضي المضيف مما يصنع إحراجا للنظام نفسه مع من سينحاز، إن انحاز للثورة إذن يغامر بكرسيه تماما، وإن انحاز إلى مصالحه سينظر إليه على أنه محارب عن العدو بالوكالة.
هذه الإشكالية ستنتقل من القوميين والوطنيين حتى الماركسيين إلى داخل الإسلاميين، فعزام سيكتب كتابه ' الدفاع عن بلاد المسلمين أهم الفروض الأعيان' ويقرر فيه أن لا إذن لولي ولا لغيره في النفير الواجب المحتم، ولكن ما أن يصل الشباب إلى أفغانستان سيندفعون لملاقاة العدو وسيمتعض من عدم إكمالهم للتدريب حتى! إنهم يفعلون ما يطرحه هو بطريقة عكسية عليه لا إذن لأحد إذن لا إذن لك حتى!
إنه واجب محتم عليهم إذن لا إذن في تعطيل الواجب إنه معصية كونه يعطل واجبا!
الإشكالية ذاتها بلغة شرعية، ويمكن تصور الأمر إلى آخر نتائجه المنطقية.. بأن كل جندي لن ينتظر قرارا لفتح النار بل سيفعل ما يراه هو مناسبا لتحقيق الفعل.
التركيز على الفعل ذاته كان قديما في الأدبيات الثورية 'إما أن ننتصر أو نموت وقوفا كالأشجار' بمعنى آخر فلنفعل بقطع النظر عن النتيجة، هذا ما سيشكل تبريرا ﻷي نكسة أو خسائر غير متساوية ماديا.. ففي معركة الكرامة قتل ما يقارب 100 فدائي فلسطيني، وهذا لا يهم بل ضريبة الثورة المهم الفعل نفسه.
والإنجازات المعنوية بشكل أكبر من أي أرقام.
لذا لن تفرق كثيرا في ذلك العقل المائة عن المائتين ما دامت الثورة مستمرة..
إنه قريب من طرح تروتسكي عن الثورة الدائمة بقطع النظر عن الأرقام الفعلية المطلوبة أو الالتفات إلى بلد تحققت فيه الثورة وقد لا يتحمل خسائر ثورة في بلد مجاور.

5


اخلاقيات العمل الثوري الفلسطيني من مهاجمة فريق لكرة القدم خارج أراضي فلسطين،إلى خطف طائرات إلى الاشتراك في معارك ضد أنظمة عربية واستهداف دبلماسييها، إلى ما يسمى بعجرفة الكلاشنكوف أي نفسية المقاتل التي تتجاوز الأعراف والقوانين للبلد المضيف.
ستلقي بظلالها في الأجيال اللاحقة، وإن كانت بصيغ شرعية واحدة من الأمور التي تسترعي الانتباه لتظهر كمية الشرخ الفلسفي وعدم وجود منظومة متسقة أن ما يرفض خارج إطار فلسطين يقبل فيها والعكس بالعكس..
بل نستطيع أن نقدر أنه لو تم طرد كلام الرافضين أخلاقيا لبعض الأعمال خارجها لتم رفض الأعمال الثورية الفلسطينية داخلها والعكس بالعكس.
وأحد هذه الأمور مثلا عبر عنه 'المقدسي' في عمليات النحر 'لقد اختزلوا الإسلام في هذا وشوهوه'، في حين لو اتبع نفس الأسلوب فلسطينيا نقدر حكما مختلفا..
بعضهم يطرد أصله في الاثنين فيلاقي رفضا عاما، موضوع موازين القوى تجد حديثا طويلا عنه خارجها اما داخلها فيرفض بحجج يستعملها نفسها القائمون بتلك الأعمال مثل اهل مكة أدرى بشعابها.. لا يفتي قاعد الخ.
بل حتى طرح الأحزاب الفلسطينية أو التي تتمحور حول فلسطين كمثال الموقف من حزب الله اثناء حربه في الجنوب وبعد ذلك علما ان عقائده هي هي.
سيقبل الحزب الذي يطرح فلسطين من رافضين لفكره خارجها! وهذا ما يدركه كثير من الأحزاب على اختلاف تنوعها بأن بوابة التسويق له هي فلسطين!
من الثورة الإيرانية إلى الإخوان إلى حزب التحرير حتى أقصى الجماعات السلفية.
واحدة من العوامل المساعدة فضلا عن تمحور الخطابات على فلسطين باعتبارها جرحا في الكرامة الوطنية و العربية والإسلامية.. هو موضوع شبيه بحوالينا ولا علينا فالأفكار مهما كانت تظل بعيدة عن العربي خارجها إنه لا يجد لها تطبيقا عليه يتحمل كلفته فلا غرابة إن أيدها.
إنها تعطيه جرعة مفقودة في ذلك الموضوع الذي يمس هويته دون ضريبة عليه.
الا ان التفكير الفلسفي يعلم تماما أن ما يتم خزنه في صندوق فلسطين ما هو إلا معرفة تشبه المعرفة القبلية خارجها.
فلا غرابة أن تظل كثير من التيارات نشطة رغم كل الاحتجاج عليها الذي يصل الى الغاندية في الطرح الخارجي ما دامت الخطابات في موضوع فلسطين تشكل دعامة لكل منظومات التيارات الخارجية. وهي محفوظة من النقد الذي هو مرادف للخيانة في الوعي الجمعي العربي.
مودتي.
تمت

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق