7.04.2016

بين ابن تيمية وكارل بوبر

31 مارس 2015

بين ابن تيمية وكارل بوبر

1

يقال: لكل جديد لذة، وكل قديم مملول، ويكأن هذا وصف لتمجيد كثير من المفكرين المحدثين، مع الحط على المتقدمين، على أن المتأخر قد يخطئ فيما يصيب فيه المتقدم.
كارل بوبر من الفلاسفة الذين اعتنوا بفلسفة العلم، وحاول أن يضع له ضابطا في كتابه (منطق البحث العلمي) ليحدد مفهوم العلم، ويخرج غيره عن كونه علما ليصل إلى أن العلم (ما يمكن التحقق منه، ويمكن تفنيده)، ولذا أخرج الاستقراء عن كونه علما، لفقدان خاصية التحقق فيه، ومن أمثلته الشهيرة (كل الغربان سود) فهذا ليس علميا عنده، إذ يفتقد إلى إمكان التحقق، فمن يقدر على التحقق من كل الغربان في كل العالم؟! بخلاف قولك الغراب هذا أسود.
ويجعل (كل) ميتافيزيقية، وليس علما.
ولذا لما يتعرض لـ (كل شيء له سبب) يطبق عليها هذا الحد فيجعلها ميتافيزيائية، بقطع النظر عن صوابها من بطلانها إلا أنها ليست علما عنده بناء على أنه لا يمكن التحقق من (كل) شيء، بخلاف قولك (يتجمد الماء عند درجة حرارة 4) فيمكنك أن تتحقق من هذا، أو يتبخر عند 100.
في كتابه (النفس ودماغها) يصفه مترجمه (عادل مصطفى) بأنه: لا أدري، والمطالع للكتاب يستطيع أن يرى ما يستند إليه هذا الحكم، وتحديدا من قول بوبر عن نظريات المعرفة (لا يمكن الحسم فيها) كأن الأدلة تتكافأ عنده، أو بمعنى أدق لا يمكن التحقق منها ولا تقبل خاصية التفنيد.
بوبر حاول أن يكون له شذرات متفرقة فيما لا يمكن حسمه عنده (نظرية المعرفة) ولذا تجده يقسم الوجود (او العالم) في كتابه (بحثا عن عالم أفضل) إلى ثلاثة عوالم (الخارجي - الواقعي) والذهني (التفكير)، والعالم الثالث (ينتجه الذهن ويكون مخرجا كالكتب، والموسيقى وغيرها).
على انه يبزغ هنا سؤال ما الداعي لرفض التعميم هذا؟
المطالع لكتبه ككتابه (بؤس الأيدلوجيا) والذي يوحي اسمه بمعارضة لكتاب ماركس (بؤس الفلسفة) يجد أن السبب في ذلك نقض الفلسفة الماركسية من نتائجها التعميمية والتي سميت بـ (الاشتراكية العلمية)، فهو يريد إخراج وصفها بالعلمية بوضع حد للعلم نفسه.
بوبر الذي عارض الماركسية بشدة لينصر الليبرالية في كتابه (بحثا عن عالم أفضل)، وليمنع أي محاسبة على (المعتقدات والأفكار)، ويطبق فيها مبدأ الصراع الدارويني على مستوى الفكر، تبقى الفكرة الأقوى التي تصمد أمام الحجج المعارضة بدون حاجة لتصفية حاملي الأفكار الضعيفة أنفسهم، إذ يقضى على الأفكار الخاطئة فحسب، عبر إتاحة الحرية للجميع.
...................

2

وقد حاول بوبر جاهدا أن يخلّص الحكم بالـ(صحة) من ارتباطه باليقين طردا وعكسا (هذا صحيح كوني متيقنا منه، وهذا متيقن منه فهو صحيح)، فيؤكد على عدم التلازم بين كون الشيء يقينيا وبين كونه صحيحا، كرد على أصل نجده واضحا عند ديكارت في (تأملات في الفلسفة الأولى)، إذ يجعل ديكارت وضوح فكرة ما دليل على صحتها.
أما نموذجه في نظرية المعرفة، فهو سقراط (أدري أنني أكاد لا أدري)، ويسميه بوبر بعبارة رشيقة (التواضع العقلي)، هذه الفلسفة نجدها عنوانا لما بعد الفلسفات الكونية بوجهة نظر دورتي في كتابه (فلسفات عصرنا).
لم يسكت الماركسيون على بوبر الذي برزت فلسفته كرد عليهم، فكتب عدد من مفكريهم ردودا عليه، منها ما يتعلق ببيان مقصده الأساسي فقالوا بأن غرضه دحض الماركسية بوصفها اشتراكية (علمية)، ونقد (علم النفس) لكن بطبيعة الحال انسحب كلامه على مجالات أخرى كنظرية داروين التي بسطها في (أصل الأنواع)، فبوبر يعتمد النظرية (كميتافيزياء) ويجعلها في عالم الأفكار لا يعتبرها كنظرية علمية.
أما النقد الذي وجهوه إليه كما في (المادية الديلكتيكية - ط دار الطليعة) بأن حده للعلم بكونه ما يقبل التحقق والتفنيد هو باطل، وإلا صار أي معتوه صاحب نظرية علمية إن قال مثلا: يوجد عنقاء في بلد معين، إذ يمكنك التحقق من هذا، كما أنه يقبل التفنيد، لكن هذا ليس نظرية علمية أبدا مع وجود هذه القابلية.
فما هو موقع كلام بوبر من نظرية المعرفة عند ابن تيمية، وأين اتفقا وأين اختلفا، وما أوجه التقارب بينهما؟
ابن تيمية بسط مواقفه صريحة في نظرية المعرفة، ولم يقل بتعذر حسم نظرية المعرفة، كما هو حال بوبر، بل يعتبر هذا سفسطة كما في (الصفدية)، وفي حين نجد بوبر يريد التحدث عن المعينات لا إثبات كليات خارجية نجد ابن تيمية يوافق على أنه لا يوجد خارج الذهن أي شيء إلا معينا (منهاج السنة)، لكن ابن تيمية لا ينفي دور العقل في التجريد واستنباط الكليات، ومعيار صدقها مطابقتها للواقع.
نجد بوبر يرفض الاستقراء كأداة في البحث العلمي، إنه يريد إخراج (كل) من موضوع البحث العلمي، بل يريد البحث في الجزئي المعين، إنه امتداد في هذا لفرانسيس بيكون الذي حط كثيرا على المنطق الأرسطو طاليسي في كتابه (الأورجانون = "الأداة، الآلة" الجديدة) بوصفه لا يكشف أي شيء! إنما مجرد تلاعب بالعبارات لغويا (كل إنسان فان، سقراط إنسان، اذن هو فان) ما الجديد في هذا!؟
بيكون خرج عن كل هذه البوتقة ليجعل البحث العلمي ينطلق من الجزئي، ودع عنك الأفكار التي لا تسمن ولا تغني من جوع! عالم العقليات المجردة.
ابن تيمية هنا يخالفه فالجزئي موجود في الخارج، والحواس تعكسه في العقل والعقل يجرد وهذا لا ينفي أهمية العقل ولا التجريد إنما بوصفه ثانويا.
لكن بيكون يرفض القياس الأرسطو طاليسي بسبب الهالة المدرسية التي أحاطت (القياس) فيه! إنه يجعل القياس الشمولي (كل) يقينيا، ولكن بيكون يقول هذا هراء! الحقائق في الخارج.
من هذا نجد بوبر يؤكد على أهمية الجزئي، لا يريد كليات يقينية مباحثها ميتافيزيائية فحسب، وحتى لو قيل هي يقينية فلا تلازم بين كون الشيء يقينيا وبين كونه صحيحا!

3

حرص ابن تيمية تماما على المعين الخارجي، وإثباته، بل والانطلاق منه فلسفيا كما في كتابه (بيان تلبيس الجهمية)، ولذا كان له اعتراضاته السباقة على بيكون للمنطق الأرسطو طاليسي الذي اقترب في الكليات إلى المثالية! (انظر الرد على المنطقيين، ونقض المنطق)، تلك التي نفر منها بيكون مما جعل انجلز يتندر به لاستخفافه بأهمية الأفكار كما في (ديلكتيك الطبيعة)، وامتد الأمر إلى بوبر، إنه يريد الحديث عن شيء ثابت في الخارج لا كليات ذهنية.
لكن مهلا ما معنى قول بوبر إن الماء يتبخر عند 100 ويتجمد عند 4 هو قول علمي؟ أليس هذا الكلام معناه (كل الماء يحصل به هذا عند هذه الدرجات عند ضغط جوي معين) وليس ماء مخصوصا فحسب!؟
هنا نجد ما فطن له ابن تيمية، وغفل عنه بوبر ومن قبله بيكون! الأمر ليس في صياغة صورة القياس حتى يحارب بيكون الكليات (التجريد) ويسحب بوبر صفة العلم عنها، أو في طريقة العرض إذ هذا سيكون مماحكة لفظية، الإشكالية البحثية ليست في الصورة، إنما في مادة القياس!
ولذا يقول ابن تيمية: (تفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل؛ بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن فرق باطل. بل حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين. وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن) (مجموع الفتاوى).
لنرى كلام ابن تيمية عندما نحركه في أمثلة كارل بوبر، حسب الأخير فإن قولك: كل الغربان سود ليس علميا، بخلاف قولك هذا الغراب أسود.
هل هذا صحيح؟ نعم صحيح ولكن صحته ليست مبنية على نقد بوبر لـ (كل) إنما لأن المادة فيه ظنية!!
وهي وجود لون في بعض الغربان لا يلزم منه أن تكون كلها مثله، لكن ماذا لو غيرنا المادة نفسها وقلنا (كل الغربان كائنات حية) مثلا؟! أو في السلب: لا تمشي على أربعة قوائم!؟
هنا سيضطرب مبحث بوبر.
سر المسألة بنظري يكمن في اتفاق بوبر مع ابن تيمية في الهدف (إثبات المعين) خارج الذهن، لكن مع فارق أن بوبر لم يحسم موقفه من نظرية المعرفة، بوصفها غير قابلة للحسم! في حين نجد ابن تيمية يجعلها قابلة للحسم انظر (الجواب الصحيح) وغيره.
ثم لا يكتفي ابن تيمية بالقابلية حتى يشرح أسسها المنهجية، ونبدأ في مقارنة بين المنهجين.
بوبر يقسم العالم إلى ثلاثة عوالم: الخارجي، الذهني، ما ينتجه الذهن ككتب وموسيقى ولوحات.
وبوبر يريد أن يؤكد على قدرة الإنسان في الاختيار، ليس مرآة فحسب للواقع بل يغيره أيضا.
هذا صحيح يسلمه ابن تيمية ويوافق على وجود خارجي وآخر ذهني ووجود باللسان وبالبنان (الكتابة، والصوت)، ويوافق ابن تيمية على قدرة الإنسان على الاختيار كما في مباحثه في القدر (انظر جامع المسائل).
يتبع ان شاء الله

4

يسلم كارل بوبر بأن العالم الخارجي موجود، علما بأن قوانين العالم العلمية حتى الآن لم تكتشف جميعا، لكنه يسلم بوجود المادة فلسفيا، مع عدم اعترافه بعلمية الكليات العقلية، وهذا يشكل عليه كيف حسم وجود العالم الخارجي وهو لا يثق علميا بالكليات العقلية!وهو ينص على أن نظريات المعرفة لا يمكن حسمها (النفس ودماغها).
أما ابن تيمية فانه يسلم بإمكانية العقل في معرفة العالم وبصحة الكليات ان وجد لها جزئيات خارجية مع القول بعدم وجود الكليات في الخارج كما يقوله أفلاطون (راجع المحاورات).
وهذا يجرنا إلى حرص بوبر على إحراج اليقين من الصحة، فليس كل ما كان متيقنا فهو صحيح، ابن تيمية ينص على أن الدليل يطرد ولا ينعكس، وأثر الدليل هنا هو اليقين أو الظن لا ينعكس، فقد يوجد يقين أو ظن لكنه لا يدل على الصحة لكن الصحة تورث يقينا أو ظنا (حسب المادة المعرفية)، وهنا يفارق بوبر الذي يكاد يجرد المعرفة من أي أثر في الإنسان!
يبقى موضوع النسبية العلمية التي حاول بوبر الدفاع عنها وانتهى به الأمر إلى لا أدرية في نظرية المعرفة! فالنسبية لا تنفي وجود حقيقة مطلقة، وقد رد لينين في كتابه (المادية والمذهب النقدي التجريبي) على المتوقفين عند النسبية المعرفية وأدت بهم إلى مواقع لا أدرية أو مثالية، بأن المعرفة النسبية حجر فسيفساء في لوحة كلية، فأنت تعرف حجر حجرين ثلاثة لكن هذا لا ينفي وجود لوحة كاملة قد عرفت بعضها.
اما ابن تيمية فهو وان سلم وجود معارف نسبية (تورث الظن) لكن مجموعها قد يرتقي إلى معارف (قطعية) تعكس الأشياء كما هي.

وقد دفع بوبر بلا ادريته الى نتائجها السياسية والاقتصادية المنطقية، فهو ليبرالي حر (لا يوجد أي حساب على أي معتقد لطالما لا يمكن حسم معرفة أي شيء غير علمي تجريبي)، والحرية هذه تعني الحرية الاقتصادية، أو الرأسمالية.
دمتم بخير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق