7.04.2016

في المادية والمثالية

22 ماي 2015

في المادية والمثالية

1

لما نتكلم عن نظرية المعرفة، فإننا نتحدث عن هم إنساني، لمعرفة موقع الإنسان في العالم، وكيفية معرفته، وحدودها، فهي مشترك إنساني، والتقسيم المذكور اصطلاحي (والاصطلاح هنا فلسفي ليس شرعيا)، وتحديد الموقف هل هو مادي أو مثالي هو تحديد لموقف في المسألة الأساسية في الفلسفة، ولا مجال هنا للا أدرية أو اللا موقف، أو ترنح إلا على حساب التماسك الفلسفي الداخلي لكل فلسفة، فهي في المؤدى ستنحسم في النظرية المعرفية إما مثالية أو مادية، أما الثالث (غير المرفوع هنا) فغير وارد إلا على صعيد المكابرة أو المداورة وفي الختام ستنحسم المسألة عمليا إلى واحد منهما.
لما نتكلم عن المثالية فنحن لا نتكلم فقط عن بحث نظري لا يمت للعمل بصلة، بل هو ملتصق تماما بالمواقف من الواقع الموجود هل هو تبرير أو مشاركة في الظلم، فلما نتكلم عن ظلم واقع ويجيب بعضهم هذه إرادة الله مثلا حتى لا يعترض أحد بوصف إرادة الله بالخير. فنحن هنا نتكلم عن موقف مثالي لتبرير الظلم..
سأسلط الضوء هنا على فلسفة ابن تيمية في هذه القضية باقتضاب.
ابن تيمية بداية يبحث المسألة الأساسية في الفلسفة (الوعي قبل المادة أم العكس) المادة المقصودة هنا كل ما هو موجود في الخارج (أي حقيقي)، الوجود يسبق الوعي الإنساني به (هذا تم حسمه علميا اليوم فالإنسان وجوده متأخر عن الأرض).
الدماغ البشري هو أداة التفكير = نصر هذا قبل ابن تيمية أحمد بن حنبل، وهو منسجم اليوم مع العلم.
هذا الدماغ لا يولد بأي أفكار قبلية، إنما هو مادة معقدة جدا، قادرة على تجريد الواقع المنقول عبر الإحساس.
الإحساس ينقل الواقع الموضوعي، المعين الجزئي الخارجي، فلا يوجد خارج الذهن أي شيء مطلق أو كلي، إنما توجد معينات يجردها الذهن ويقوم بعملية تحوير لها إلى كلام (لغة) وهذه اللغة هي أساس العمليات العقلية الذهنية سواء كانت لغة عادية كاللغة العربية، أو لغة رمزة كالرياضيات، اللغة هي التي تنقل المعرفة إلى الغير ويبني عليها ويستطيع تكرار التجربة وفق شروطها الموضوعية، ويستفيد مما تم تجريبه ونقله عبر اللغة وبذا تكون المعرفة تراكمية عبر العصور (عبر بحث يتعلق بصحة النقل عن المجرب وما استنتجه من التجربة الحسية).
لا يوجد فرق حقيقي في ذات الأشياء بين ضروري ونظري، قطعي وظني، إنما هذه نسبية ومختلفة من إنسان لآخر، فحتى أشد البديهيات هي في الأساس معطيات حسية للواقع تم تجريدها وتكرارها بما يكفي حتى يتصورها الذهن بشكل أسرع من غيرها، أو يقطع بصحتها أشد من قطعه بغيرها وقد يقطع فيما بعد بما ظنه حاليا.
عملية التجريد مهمة لنقل المعلومة وتمييزها عن غيرها، مع القطع أنها في الواقع ليست مجردة، وكمثال على هذا تجريد الأشياء عن المكان، سواء كان عدميا أو وجوديا، وبذا يقول ابن سينا:
وقولنا ما ليس في مكان *** فليس بالموجود في الأعيان.
عملية عكس الواقع الموضوعي عبر الحواس، قد لا تتم بحاسة واحدة حتى لا نقع في تجريد لا يعكس الواقع كما هو، إنما قد تقع بعدة حواس وليس حاسة واحدة، كل منها يعكس جانبا من الحقيقة الكلية، فالمعرفة النسبية ليست جهلا وفي نفس الوقت ليست حقيقة مطلقة وإنما جزء منها.
عملية الضمان لصحة المعلومة المعكوسة هي تكرار التجربة، من الأمثلة العلمية على هذا قدرتنا على التحقق من كروية الأرض كمثال وتكرار هذا وفق شروط موضوعية.
مثال آخر ديني متسق مع هذه النظرية المعرفية = الأنبياء هم تكرار لنفس التجربة مع تفاوتهم في هذا، والنبوة لها شروطها وقد تكررت كثيرا وكلما تكررت كان بعضها يصدق بعضها البعض، ولا يمكن وجود شيء لا يمكن إدراكه بالحس، ولذا فإن الله موجود وقد خاطب موسى عليه السلام، وخاطب أنبياءه عن طريق الوحي، وتكررت هذه التجربة مرارا عند شروطها الموضوعية (الشروط الموضوعية للنبوة والتي منها ما ليس كسبيا بل هو اصطفاء).
وقد تم نقل هذه التجربة في اللغة، والمعرفة بما أنها تراكمية فإنها تبني على التجربة السابقة والتي تكررت كلما تحققت شروطها (في الأنبياء) وبقي التحقق من صحة نقل التجربة الحسية (خطاب الوحي) عبرها وفق ضوابط اعتمدها علم الحديث والأصول مما لم تصبه لوثة القواعد الأرسطية المضطربة في نظرية المعرفة، أو الافلاطونية المثالية الموضوعية المتصادمة مع هذه النظرية...

2

المعرفة الذهنية معيارها الأساسي مطابقتها للواقع، وكلما كانت تعكس جزءا منه فإنه معرفة نسبية، إي تعكس نسبة من الواقع لا كله كما هو، فمثلا هذه النظرية تستطيع أن تحدد وجود المادة دون كيفيتها (فالكيفية) هذه وظيفة العلم.
مثلا نقول الأرض موجودة معينة خارج الذهن محددة، لكن كيفية سطحها هذه تحدده البحوث العلمية، فجهلنا بكيفية المادة لا يعني جهلنا بحقيقة نسبية وهي أنها معينة ليست كلية، كل هذا لا يهدمه جهلنا بكيفية سطح الأرض في منطقة منها مثلا.
ولا يعني عدم وجود تلك الكيفية.
في المجال الديني نعرف معنى صفات الله عز وجل وإن كنا نجهل كيفيتها، وليس في الجهل ما ينفي العلم، وتعني معرفتنا بمعاني صفات الله أي نعرف مشابهتها للمعاني المعقولة منها في اللغة مع الفارق وهو الكمال فيها بخلاف المخلوق الناقص.
ولا يعني هذا أن العقل لا يقدر على البحث في صفات الله عز وجل بما يعلمه بل تحديد الموقف من الصفات هو تحديد الموقف من نظرية المعرفة لكن بلغة أخرى.
النظرية المادية تقول مثلا لا وجود لغير ما لا يمكن معرفته عن طريق الحس، إنما هو محض ضرب من المثالية، ولا يشترط هذا معرفة جميع البشر به حسيا بل يعرفونه بما تم نقله عبر اللغة، لكن يمكن الإحساس به عند وجود الشروط الموضوعية مثلا وجود البكتيريا حقيقي يمكن معرفته بالحس، ولا يعني هذا عدم وجودها عند فقدان أدوات المختبر!.
فانقطاع النبوة لا يعني هدم ما تم نقله وتكرار تصديقه بينهم بمجرد أننا لا نقدر على أن نكون أنبياء! فمن صار نبيا صدقهم ومجموع الأنبياء توافقوا فيما بينهم على العقائد الأصلية.
والدماغ البشري يستطيع أن يبني على معرفة غيره فيقيس ويلحظ الشروط والموانع والعلة، فيقدر على هذا.
ولا تقبل نظرية المعرفة هنا بالمداورة المثالية الذاتية والموضوعية، أما الذاتية فبالتقليل من القدرة على عكس الحقائق الموضوعية، أما المثالية الموضوعية فبالمبالغة بالتجريد العقلي على أنه واقع! لا أنه ثانوي.
ومن القواعد المهمة في هذه النظرية: التغيرات الكمية تؤدي الى تغيرات نوعية.
وهذا ما يعبر عنه ابن تيمية بان التقسيم لشيء لا يوصل الى الجوهر الفرد انما يستحيل الشيء الى غيره، وهذا له ارتباطه بالسياسة والفقه وغيرها.
فمثلا كثير من أتباع المنهج التجريدي المغالي يبحثون في الفقه حكم الأفراد، حتى ولو كانوا في جماعات وشركات أو دول واحلاف يتعاملون معهم فردا فردا، في حين أن العدد هذا الكمي يصل الى تغير نوعي تجعل ابن تيمية يبحث بحوثا تتعلق بالطائفة الممتنعة لا بمجرد فرد واحد..
بقي عندنا التسلسل، فالماديون كإنجلز مثلا لم يحذفوا سببا لتوقف القاعدة السببية كما هو الفكر المثالي! كل شيء له سبب ثم يصلون الى سبب لا سبب له! وهذا منتهى التحكم.
وكان رد البوطي هو مجرد تكرار لأدلة المتكلمين في نقد تسلسل الحوادث! على ان التسلسل الذي يطرحه ابن تيمية يوافق على طرد قاعدة السببية.
والإشكال الذي وقع فيه انجلز وغيره هو عدم التفريق بين الحوادث الممكنة الوجود القائمة بذوات ممكنة الوجود أيضا. فالممكن يظل وجوده يحتاج إلى سبب وكل ممكن الوجود فوجوده من غيره، ولا يمكن حل المسألة فلسفيا حتى نصل الى ذات واجبة الوجود، وتقوم بها الحوادث المختلفة عن الحوادث الاخرى القائمة بذوات ممكنة الوجود.
وهذا ما يلخصه ابن تيمية بقوله: كل مخلوق محدث وليس كل محدث مخلوق.
ولقد كان من أهم الأمور التي يمتد لها أثر الفلسفة المادية والمثالية (الخير والشر) في أفعال الإنسان وغيرها.
فالمثالية مرتع خصب لتشكل أفيونا للمسحوقين أمام أي ظلم.
أما المادية فرأت الأمور كما هي عليه، وهنا ابن تيمية يتسق مع نظريته العامة في المعرفة، فيفرق بين الفعل والمفعول، فالمفعول قد يكون مأمورا به وقد يكون محرما، ولا يعني أنه مقضي به أنه يجب الرضى به، فالرضى بفعل الله أما مفعوله فالله نفسه أمر بتحريم بعض ما خلق وبنجاسة بعضها وهكذا.
وبالتالي فهذا يسد الباب على المثالية الفلسفية التي غرق بها اللاهوت المسيحي وأمثاله!
ولذا فابن تيمية يقول بالتحسين والتقبيح العقلي بخلاف الأشعري ومن تابعه، فرفض الظلم مثلا عند ابن تيمية مشترك إنساني، ولذا تجده يقول الظلم ظلم مع كل أحد مع أي أحد.
بخلاف رفض التحسين والتقبيح الذي يقلص الدائرة من حيزها العالمي إلا اتباع النص فحسب! ويتعامل مع الظلم لا كأنه موضوع قائم بذاته بل لأنه حكم شرعي ولولا الحكم الشرعي لم يستقبحه (وهذا يقطع أي تعاون نظري أمام الظلم على صعيد المظلومين في العالم على اختلاف تصوراتهم الفلسفية والدينية).

مودتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق