10.08.2017

ما بعد المابعدية

ما بعد المابعدية


لما صدر كتاب (ما بعد السلفية) سارع كثيرون إلى قراءته، واهتموا بأن يعرفوا أي طرح نقدي يمكن أن يقدمه المؤلفان إلى السلفية في الكتاب، لقد لعب الكتاب على عوامل شكى منها كثيرون، وافتتحا الكتاب بسؤال يقول:
" كيف تبدو لنا السلفية اليوم بعد كل عوامل التشظي الداخلية"؟!
(ما بعد السلفية، ص13.)

إنه سؤال جذاب، اجتذب شريحة ممن امتعضوا للتشرذم والتفرق بين من عدّوهم رموزا للسلفية يومًا ما، وبقطع النظر عن فضيحة السرقات في الكتاب التي أبرزها بندر شويقي، فإن الكتاب صنع حوله مجموعة أنصار، شكلت خطا وسيطًا ليس هو إخوانيًا تنظيمًا، وبنفس الوقت يكثر الاعتراض على ما سماه بالسلفية المعاصرة، مع أن الكتاب تعرض نقديًا لأحمد وابن خزيمة وابن تيمية وغيرهم ممن لا يقال فيهم (سلفية معاصرة)، إن السلفية كما يرى الكتاب:
"نفسها ستزيد تشظياتها"
(ما بعد السلفية، ص694.)

حول هذا دارت أطروحة الكتاب، وصنع ممن تحلق حول المؤلفين نجومًا في وسطٍ من بقايا انحسارٍ وفراغات شملت الإسلاميين عمومًا، كانت الساحة فارغة إلى حد كبير، وصار المجال كبيرًا لذلك البروز الذي اكتسح برنامج الآسك.
لقد لعبوا على ما يشكو منه الجميع، وتتفق عليه كافة الخطابات الدعائية، الشكوى من التشرذم والتفرق.
ثم صنعوا لأنفسهم تجمعا زاد التجمعات واحدا، فما الذي قالوه وما الأفكار التي بثوها بشيء مختلف عن غيرهم؟ لا يمكن رصد فكر محدد يشار به إليهم عند ذكره، بقدر ما هو تصدر في ساعة انحسار، وتشكيل نقطة مرجعية لكثير من الشباب، ومن هنا عبر عنهم بأنهم (مشايخ الآسك) أو (المابعديين) نسبة إلى الكتاب.
إن الاشتهار الكبير بدأت ترافقه أعراض تلفهم، حالة تشبه ما سمي يومًا بـ (عنجهية الكلاشنكوف)، وهو مصطلح أطلق على سلوك التجمعات الفلسطينية المسلحة في لبنان قرب الحرب الأهلية، يتعامل الثائر فيه بأنه فوق الآخرين وينطبق عليهم ما لا يمكن أن ينطبق عليه، مما زاد من الامتعاض حول وجودهم هناك.
لكن هذه المرة عنجهية في التصدر والمشيخة، فكانت مشاكلهم مع غيرهم لا يظهر فيها أي فكرة جديدة، إنما تفتعل خلافات لكسب مواقع جديدة، داروا فيها في إطار تقييم الأشخاص، وإطلاق الفتاوى وبطريقة ساخرة أحيانا، وعبروا عما يشبه سياسة الانفتاح التي يعلنها نظام تالٍ لتصفية نفوذ نظام سابق، مثل غورباتشوف والسادات.
كانت سياسة الانفتاح عندهم متمثلة بالاقتباس عن مسرحيات أحيانًا أو فلاسفة غربيين، أو إبراز آراء فقهية مجهولة في قطاعات شبابية، ولربما قال المجيب بعدها ليس كالسلفية المعاصرة! فهم لا يفقهون هذا.
إن غياب منظومة فكرية محددة جعلت التنبؤ بما سيقولونه في وقت لاحق غير واضح، ومرد ذا إلى غياب المنهج، ما المعيار الذي يمكن أن يبرز به اسم بينهم سوى التزكيات المتبادلة بأن فلانًا أعلم من الألباني مثلًا؟
حتى وصل بهم الأمر إلى التركيز على الأشخاص لا المناهج، فيتم تقديم شخص على أنه مؤهل"علامة"، وتجري إحالات متبادلة بينهم، وذلك ضعيف أو وسط في الفقه أو الأصول ونحوها، حتى وقعت آخر مشاكلهم بين محمد عبد الواحد وأحمد سالم، من عينة أحيل عليك لا أفعل، أنت زكيتني نعم ولكنك ضللت، بل أنت تفتعل خلافات مع غيرك ونحو ذا، وجرهم الأمر إلى اتهام أتباع كل منهم بالتصفيق عن صمم، والتحزب الأعمى، مما تعبر عنه كلمتهم لما تكلموا عن أفول السلفية:
" سيكون أفول افتراق وتنازع بين الأصدقاء السابقين، وهذا سيقود إلى حالة تشظ"
(ما بعد السلفية، ص684).

حتى الإعلام الذي حاول احتواءهم كالجزيرة، لم يكن يريد منهم تكتلًا مستقلًا عنها، ورغم تحقيق مزيد من الشهرة لهم، إلا أنهم لما يرونهم يخرجون رؤسهم من النافذة قليلًا يبادرون بنهرهم حتى تسخيفهم، مثال ذلك ما صنعته الجزيرة من تقرير عن عمرو بسيوني، أشبه ما يكون بتقريرٍ عن حساب ساخر، وختموه بهل فكرت أن تسأل الشيخ عمرو؟! وكان بهذا يجعل دورهم في حدود الاستطراف.

آخر مشاكلهم وتحزباتهم الداخلية، تبين حالة اللامنهج والتشظي الذي سادت بينهم، هذا التشظي الذي كانوا يحاولون رصده بغيرهم، ليحكموا عليهم بالأفول ولكنه فيما بينهم يصورونه على أنه (خلاف علمي)، وما كانوا يطلقونه على غيرهم من تقييم انتقل إليهم ليتجرعوه فيما بينهم، وهنا يعود بنا الأمر إلى الحكم الذي سبق أن أعلنوه على غيرهم، ليصرخ وسطهم هذه المرة بما بعد المابعديين.