4.02.2018

درس القرن العشرين إسلاميا


01 أبريل 2018

درس القرن العشرين إسلاميا

1


واحدة من الأمور التي تشكل مبحثا مهما للفلاسفة والسياسيين وعلماء الاجتماع وغيرهم التاريخ، وتحديدا القرن 20 بما حواه من حربين عالميتين سقوط إمبراطوريات، وقيام ثورات .. إلخ، لذا تتابع الكتب التي تسلط الضوء على تلك الدروس التي يجب الاستفادة منها، وسأركز حديثي فيما يتعلق بالشأن الإسلامي فحسب:
1-من الأمور الملاحظة في تناول التاريخ بين الإسلاميين في كثير منه أنه يتعامل معه كدرس إيماني، (ابتلاء، محنة، تمكين، صحوة) لا كدرس فلسفي، ولا سياسي، ولا علمي، ولا اجتماعي وبهذا تم حشد درس التاريخ بمباحث ليست منه، ثم إقامة نسق خاص يفقد القدرة التفسيرية لغيرهم، بمعنى: إن تناول التاريخ بهذه الصورة سيجعله حكرا على الإسلاميين دون ربطه بتاريخ غيرهم الذي كان يجري في نفس الوقت، ومن هنا سيجري فقط قلب التاريخ الداخلي إلى ضده في التعامل مع التاريخ الخارجي:
مثلا العصبة المؤمنة/الصحوة/الحركة، أما غيرها فيكون تاريخه مماثلا لكن بالضد، مثل الطواغيت، أنصارهم، الطغمة إلخ.
هذا يجعل التاريخ محض قيم معيارية (صحيح/ وباطل) وهذا يجعله يفقد التفسير لصالح التقييم، إنها صورة من آثار عقلية الفقيه، على حساب العقليات الأخرى، والتي لا يلزم بالضرورة تعارضها مع الفقه، إنما تسير في إطار منفصل عن التقييم، فنجاح حركة أو سقوط دولة يشمل ما هو حق أو باطل والضروري هو تفسير النجاح والسقوط لا مجرد الحكم أخلاقيا عليه.

2

2-التوجس الدفاعي:
غلب على كثير من الكتابات الإسلامية ما يمكن تسميته بالتوجس الدفاعي، ففي إطار الدفاع عن الهوية كان يجري نفي وإنكار (طمس/تجاهل) أي أحداث أو مقالات يمكنها تعكير هذا، في هذا الإطار جرى إهمال أحداث هائلة من التاريخ والتركيز فقط على أحداث معينة، وجرت عملية (بسترة) للتاريخ المقدم للأجيال، فكل كلام في الحجاج الثقفي مثلا مزوّر ومدسوس عليه، وبعض الناس اليوم يقول: كل التاريخ محرف، كنتيجة لمثل ذلك التوجس.
هذا التوجس يمكننا من خلاله فهم العزوف عن التأريخ داخل التيارات الإسلامية غالبا إلا في إطار (تمجيدي) كتسطير صمود داعية، أو (تدنيسي) للخصم كاختزال فرق الشيعة في ابن سبأ، ونحو ذلك مما يعطي بعدًا للأحكام على حساب التصورات، وهو ما كررت إعجابي بتسميته من محمد جابر الأنصاري بقوله: (العرب بين التضخم الأيدلوجي والبؤس المعرفي).
هذا التوجس الدفاعي استل كثيرًا من محاوره من كتابات (نظرية المؤامرة) والحديث مطولا عن الجمعيات السرية، وصار مقبولًا دون مراجعة لفترة طويلة الحديث عن فرسان الهيكل والماسونية وبروتوكولات حكماء صهيون في قراءة السياسة، ومثله الحديث عن مؤامرات (بني أمية) و (الحشوية) الكونية في تحريف التراث وتغييره تماما ضد غيرهم.

3

3-الاقتصار على علوم الشرع في التاريخ:
هذا ملاحظ في الأدوات التي تعامل بها الإسلامي في التاريخ، على سبيل المثال يمكن أن تجري بحوث مطولة في إطار علم الحديث في إطار الثقة في الراوي وعدالته، هذا يجعلنا نسقط التاريخ عمليا، فالتحقق في الحديث له شروط وقيود مكثفة لا تلزم بالضرورة في التعامل مع التاريخ، واجهتني هذه الإشكالية لما كتبت كتاب (ماذا قيل يوما في أفغانستان) حيث ذكرت بعض الأحداث من خارج الإطار الإسلامي مثل تقارير البنتاجون، مذكرات كارتر، مذكرات فؤاد علام إلخ.
بعضهم استثقل هذا وكأنه يريد التاريخ بمعيار الحديث فحسب، وقديما قيل في سيف بن عمر إنه ضعيف في الحديث مقبول في التاريخ.
إن الأمر لا يكاد يظهر في العصور الإسلامية المتوسطة حيث إن كثيرا من كتب التاريخ كانت إسلامية، وكانت تنقل عن بعضها مثلا ابن الأثير ينقل عن الطبري، ولكن في القرن 20 هذا لن يعمل.
إن التعامل مع الأخبار هنا يجري بالحديث عن الوثائق ومقارنة الروايات بما يفسح أكبر قدر للرؤية التفسيرية للأحداث (بقطع النظر عن الثقة بالراوي)، وهو ما لا يكاد يجد له تفعيلا نظريا داخل التيارات الإسلامية، وبهذا لن تسمع عن تاريخها إلا منها، وإن قرأت سيظل مثل الإسرائيليات على أعراف المعرفة لا تصديق ولا تكذيب في كثير من الأحداث.
لا يعني هذا أن الطرق الحديثة في التاريخ أعلى من قواعد علم الحديث بل قد تكون دونها مرارا لكن لا يجب إسقاطها بكل سهولة وإلا ستكون بمعزل عن التاريخ، وهذا أثر مهم في عقلية كثير من الإسلاميين يتحرك بانقطاع في الحلقة التاريخية بين الأمس واليوم، بين ازدهار الحضارة الإسلامية وفجأة ما نحياه اليوم.

4

4-عقلية فقيه سالبة اجتماعيا:
نظر الفقهاء للعرف الاجتماعي وقسموه بين مقبول ومردود، كما هو مبين في كتب الأصول والفقه، لكن الذي يهمنا هنا أن الفقيه لا يفسر لماذا يتغير العرف، وليس من شأنه، فلما يقول هذا عرف بلد ولا يتعارض مع الشريعة هو في الإطار المحافظ على الوضع القائم.
ومتى تغير العرف إلى غيره سيقول نفس الشيء فزاويته هي ما لا يتعارض مع الشريعة، لا تغيير العرف الذي قد لا يحقق مصلحة دنيوية مثلا، ويخرج جيلًا من العاطلين عن العمل أو العاجزين علميا وإن كان نظريا هو مباح.
إن الفقه تعامل مع مسائل لا مع تاريخ كامل، نأخذ مثالا:
عرف العمل في بعض البلدان كان 15 ساعة يوميًا للعامل.
رأس المال الأجنبي الذي كان يعمل في التعدين مثلا 70%.
هنا لو أخذنا نفس المسألة وقلنا لفقيه ما رأيك؟
سينظر للأولى على أنها عرف يجب الالتزام به، والثانية على أنها عقد مباح ما لم يكن فيه محرم.
هذه النظرة حتما تختلف متى علمنا أن العمل 15 ساعة يوميا يصنع من الإنسان مسخا.
سيكون تدقيق الفقيه على أوقات الصلاة بأن يسمح لهم، وأن يكون عملهم ليس محرما مثلا في الخمور.
لكن المشكلة تكمن عندما ننظر إلى تعميم هذا العرف على 20 سنة ماذا سيصنع حتى بالدين نفسه!
وبعد ثورات عمالية وإضرابات جرى تقليص ساعات العمل إلى 10 مثلا سيقول الفقيه هذا صار عرفا!
هنا يفقد تماما تصور الواسطة بين العرفين.
وسيقول العمال هذا نفسه الذي كان يأمرنا بالالتزام بالعمل 15 ساعة يوميا.
كذلك امتلاك رأسمال أجنبي في البلد يكون سببا للتحالف مع الدول التي كانت تمتلك رؤوس الأموال تلك، نحن هنا في مصادرة للقرار السياسي السوي.
إن التعامل الفقهي مع التاريخ سيجعل القراءة للأحداث بطريقة تفصل بين الأسباب ونتائجها وذلك عبر النظر إلى التاريخ كمقطّع إلى مسائل وأجزاء لا تفاعل بين تلك الأجزؤ عبر الزمن.

5

5-عقلية مدون الأحداث لا المفسر لها:
في التاريخ التقليدي كان يجري تدوين الوقائع، وكان بعض المدققين يحرصون على معرفة صحة تلك الوقائع، ما الذي جد عند ابن خلدون؟
هو تفسير تلك الوقائع، لا مجرد تدوينها، ولا معرفة صحتها فحسب، هذه العقلية شبه غائبة تماما في الوسط الإسلامي، خذ مثالا شهيرا:
لماذا لا يوجد اليوم عبيد؟
هذا السؤال أفترض أن كل إسلامي سأله ولو مرة واحدة على شيوخه، أو بينه وبين نفسه، ستكون الإجابات من حيز الهوس الدفاعي: المصلحة، العرف الدولي، تتغير الأحكام، إلخ، أمريكا قامت على جماجم العبيد.
السؤل ليس لماذا لا يصح الآن، بل لماذا لا يوجد بشكل عام في أكثر الدول، فالجريمة على سبيل المثال ممنوعة قانونا ولا تصح ولكنها تحدث في كل الدول، لكن لماذا كان سوق العبيد نشطا بشكل نظام عام ثم توقف، بطبيعة الحال يوجد خروقات متنوعة لكنها ليست ظاهرة عالمية كما في عصر الإقطاع.
هنا يظهر البؤس التفسيري للوقائع، فلا توجد أدوات مثل علم الاجتماع في المسألة، ولا نظرية معرفية تبين الطريق التي سوف تسلك لتفسير مثل هذا.
بل لا يزال البعض يتعامل مع العصر الحاضر بأدوات القرون الإسلامية السالفة كما عند بعض التيارات السلفية (الروم/الفرس/الأعاجم) في تغافل عما حواه القرن 20 من تركة، وما لهذه الاصطلاحات من ضعف توثيقي وتفسيري للأحداث.

6

6-نظرة الأفراد الذين يصنعون التاريخ:

سادت بشكل كبير في الكتابات الإسلامية نظرية الأفراد المميزين الذين بهم يتحرك التاريخ، الأمر شبيه بنظرية كارلايل الذي جعل العجلة التاريخية تدور بناء على عبقرية أفراد مميزين، ومن هنا فتاريخ القرن يدور مع رموز معينة مثل البنا، سيد قطب، الألباني، ابن باز، عمر المختار، إلخ.
هذه النظرة تتجاهل درس القرن، فيسلط الضوء على الأفراد دون الظرف التاريخي، أدوات الإنتاج، التقنية، الشعوب، إلخ.
إنه ينعكس حتى على الأماني فيصير الدعاء (اللهم قائدا كصلاح الدين) وبذا تنعقد الآمال على التغيير الفردي، نظرية الفرد المغير تتجاهل التغيرات التي حصلت في العالم من القرن 16، بعد الطفرة الصناعية.
ويدفع لأهمية القائد دون الحزب/المؤسسة/الظرف التاريخي الذي يتحرك به، ومن هنا جرى التركيز على نوعية الأفراد أنفسهم دون نوعية العلاقات الاجتماعية، وصار المجتمع أقرب إلى البحث النفسي منه إلى التحليل الاجتماعي.