3.24.2018

تسهيل مسألة تسلسل الحوادث





تسهيل مسألة تسلسل الحوادث



يوسف محمد يوسف سمرين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فالحادث هو المسبوق بعدمه، وقد يكون موجودا واقعًا مثل الحوادث المشاهدة، من ولادة البشر وموتهم، وقد يكون ممكن الوقوع وهو حكم ذهني بعدم وجوب وجوده، ولا استحالته، بحيث لو وجد فإنه لا يكون إلا حادثا، كما تقول: لو تزوج فلان وجاء بولد فإن الولد لا يكون إلا حادثا، مع أن كل هذا لم يتحقق.
وعادة ما يتم الاستدلال على وجود خالق لهذا الكون بأن هذا العالم محدث، بما أنه مجموع محدثات، ولا بد لكل حادث من محدث، فنصل إلى محدث غير حادث، أو تتسلسل الحكاية، ووقتها تضحي الممكنات الحادثة وجدت دون أي مسوغ، وهذا باطل.
في تاريخ الفلسفة حتى من قبل أرسطو وجد من قال بأن العالم كله متحرك، والحركة تشمل أي تغير، إلى أن نصل إلى (عقل) لا يتحرك، وهو ما سيطوره أرسطو بنظرية المحرك الذي لا يتحرك.
هذه النظرية تحدث عنها في عدة كتب مثل (الكون والفساد)، و(الطبيعة)، إلا أنه فصّل فيها في كتاب (ما بعد الطبيعة) في مقالة حملت عنوان (مقالة اللام) في الترجمات العربية المبكرة من أيام المأمون العباسي.
بدا طرح أرسطو ملهمًا للكثير من الفرق الكلامية، ونظروا إليها كبرهان على وجود الله، بأن هذا العالم متحرك (متغير) ولا بد أن نصل إلى محرك أول غير متحرك (غير متغير).
ورغم أن أرسطو قال بأزلية بعض المتحركات، ولم يكن عنده المحرك الأول خالقًا موجِدًا للموجودات، ونسب إليه مسؤولية التحريك فقط إلا أن طرحه بقي ملهمًا رغم كل هذا، وحرصوا على تعديل ما اعتبروه نواقص في النظرية سواء في الفرق الإسلامية أو النصرانية التي أخذت هذا منه.
أرسطو علم أن المحرك الأول بما أنه لا يتحرك، لا يمكن أن ينسب إليه ما يتعارض مع نفي الحركة عنه، والحركة كما سبق تشمل أي تغير، وعرف أرسطو أن إعطاء المحرك الأول صفة العِلم بالعالَم يناقض نفي الحركة عنه.
فالعالم متحرك، يتغير، كيف سيكون المحرك الأول عالمًا به دون أي تغير في علمه، بمعنى حصل انطفاء لنجم مثلًا، حتى ولو قيل الأول يعرف أن النجم سينطفيء من قبل أن يحدث هذا، لكن لما ينطفئ في الواقع إن علم الأول أنه ينطفئ في الواقع وتحقق الأمر هذا يختلف عن علمه بأنه سينطفئ ليضحي ينطفئ في الواقع وليس مجردَ علم، ثم سيتغير إلى ماض بعد انطفائه بأنه انطفأ تماما وهذا يختلف عن كونه سينطفئ أي (المستقبل، الحاضر، الماضي) يختلف في العلم، ومن هنا سينفي أرسطو أن الأول يعلم أي شيء في العالم، بل يعلم نفسه فقط.
ثم إن إيجاد الموجودات لا يمكن أن يكون من المحرك الأول وذلك أنه أزلي، ولو كان وجوده سبب وجودها لكانت المحدثات أزلية وهذا يناقض المشاهد، ثم إن هو أوجدها فقد قامت به حركة (أي هو قبل أيجادها ليس مماثلا له وهو يوجدها) ولذا فإنه لا يجعله سبب الموجدات.
لكنه يحركها، لكن كيف سيحرك العالم دون أن يتحرك؟ تم ابتكار العشق، فقيل مثلما يحرك المعشوق عاشقه، فلو قدر أن شخصا عشق فتاة ستؤثر فيه دون أن تعلم هي بأنه يراقبها وكذلك تم تحريك المتحركات الأزلية!
لا يمكننا فهم أرسطو إن نحن تعاملنا معه وكأن المحرك الأول عنده هو (الله) بل باستصحاب الثقافة التي نشأ في إطارها، حيث إنه نشأ في ثقافة الإغريق التي تعتقد بتعدد الآلهة بل يوجد حتى نصف إله، وليس الحديث هنا عن إله واحد له صفات الكمال وهو سبب العالم.
لما أخرج أرسطو المحرك الأول عن العلم بالعالم، كان لابد من وجود مبدأ أو صفة العلم توجد قبل الأشياء المحدثة في العالم ومن هنا قال بمبدأ الصور، وهو العلم لكنه لا يقوم بالمحرك الأول، ولما لم يجعل في المحرك الأول قدرة توجد الأشياء أخرج هذا ليجعله مبدأ في الوجود وهو الهيولى وهي المادة بمعناها المطلق لا المعين، واتحاد المادة مع الصور هو الذي يجعل الأشياء موجودة في الواقع.
المحرك الأول يحرك المحركات الأزلية وهي الكواكب، بطريقة العشق كما سبق، وهي التي تحرك غيرها من الموجودات وتؤثر فيها، ومن هنا كانت تقدم القرابين للكواكب وتدعى وترجى كون المحرك الأول لا يسمع ولا يعلم شيئا مما يدور في العالم فهي المؤثرة في العالم.
هذا التصور هو الذي تمت ترجمته وأثر بالفرق الإسلامية إلى درجة كبيرة، وستبدأ مشكلة تسلسل الحوادث بالتفاعل مع محيطها الثقافي، وسيجري التعرض لمسألة تسلسل الحوادث في هذه الصفحات إن شاء الله لتسهيلها.
كانت بدايات التأثر بأطروحات أرسطو ساذجة، وضيقة، وبدأت تتوسع بشكل كبير كلما تقدم الزمن، كان من أهم ما وقع التأثر به هو مسألة (المحرك الذي لا يتحرك)، الحركة عرفها أرسطو: بأنها تشمل النقلة والاستحالة، والزيادة والنقصان في كتابه (النفس)، وقد ترجم هذا المعنى باكرًا في حركة الترجمة أيام العباسيين.
كانت الفرق المتصارعة تتلهف للقادم الجديد لتضيفه إلى ترساناتها الكلامية، وبدأ الحديث عن المُغيّر الذي لا يتغيّر، وكانت أبرز الفرق التي تأثرت بالوافد الجديد هي الجهمية، وهي فرقة كلامية تتبع جهم بن صفوان، الذي كان له أطروحات مثالية، وتقاطعت نظرية أرسطو في المحرك الذي لا يتحرك مع كلامه.
إن التراث الجهمي الأول مفقود، ولم يصلنا عن جهم أي كتاب، إنما حفظت مقالاته في كتب المقالات، لكن من بين الكتابات الباكرة المهمة في تصوير مقالات الجهمية، كتاب (الرد على الجهمية) لأحمد بن حنبل، وكتاب (الرد على الجهمية) و(الرد على بشر المريسي) للدارمي.
هذه الكتب وإن كانت ترد على الجهمية إلا أنها حفظت لنا نقولات مهمّة عن تصور الجهميين الأوائل، فنطالع في كلام الدارمي أن الجهمية تأثرت باكرًا بالمحرك الذي لا يتحرك بالحرف، ومن هنا يعارضهم الدارمي بأن كل حي يلزم أن يتحرك.
المغيّر الذي لا يتغير، سيظهر أثرها للعامة في مسألة خلق القرآن، وإن لم تكن المسألة في البدايات تابعة لهذه النظرية، لكن اتحدت النظرية لتشكل عمودًا فقريًا فيها، والتركيز هنا سيجري فحسب عن أثر النظرية في مسألة القران.
القرآن كما هو معلوم مكوّن من أحرف، وهذه الأحرف متتابعة لتشكل بناء للكلام، مثلًا (الحمد لله رب العالمين)، الألف تسبق اللام، واللام تتلوها، والحاء بعد اللام وهكذا، وهذا يعني أن الأحرف حتى يقولها المتكلم حادثة، لا يظل على حرف منها أزلًا وأبدًا، بل ينتقل إلى الحرف التالي، والذي بعده ليتكلم.
هذا معناه الحدوث، أي كان بعد أن لم يكن، وهذا يعني التغير، فالأول كما قال أرسطو لا يتحرك، أي لا يجري عليه أي تغير، لا أي فعل منه ولا انفعال عليه، وبالتالي، إن لم يكن قد تكلم، ثم تكلم فهذا يعني حركة، وهي منفية عن الأول.
كما إن القرآن نزل وهذا يعني انتقال، والانتقال حركة، والحركة لا يوصف بها الأول، وهكذا تم تسلسل الأمر، فقالت المعتزلة -وهي مسبوقة من الجهمية بهذا- بأنه محدث مخلوق.
سيخرج عن المعتزلة أبو حسن الأشعري، بعد أن بقي فترة طويلة بينهم، ثم بدأ يقلب حججهم ويعارضهم، وكان من أهم ما بقي في مذهبه من احتكام إلى نظرية (المحرك الذي لا يتحرك) قوله في القرآن، وهو وإن كان يعارض المعتزلة في قولهم إلا أن أصلهم بقي مسلمًا عنده.
فبما أن الأحرف حادثة يلزم منها التغير، سيقول بأن القرآن الذي يقصده هو ليس مكونًا من حروف، حتى لا يقع بلازم الحركة، وليس بمعانٍ متتالية، حتى لا يلزم منه تعاقب الحركة، بل هو معنى واحد قائم بالنفس، وهو قديم، غير مخلوق، ومن هنا جاء ابتكار الكلام النفسي، الكلام النفسي عند الأشعري ليس مثل حديث النفس لما يكلم المرء نفسه دون أن يتكلم، فالذي يحدث نفسه يجري عليه أحرف ومعانٍ داخل نفسه، لكنه عند الأشعري لا حرف فيه البتة، وهو معنى واحد، وبهذا الأمر والخبر والاستفاهم كلها واحد في الكلام النفسي.
والذي دفعه إلى هذا القول هو الاحتكام إلى المنظومة الأرسطية التي ورثها عن طريق المعتزلة (لا يوجد دليل أن الأشعري طالع أرسطو بنفسه)، وسيزداد نفوذ الأشعرية بعد الأشعري، وستنصرها دول وممالك، وهو ما سيؤثر في غيرها من الفرق، والمقالات.
من بين من سيتأثرون بعض الحنابلة الذين لن يستطيعوا مخالفة أحمد بن حنبل في مسألة القرآن في قضية الحرف والصوت والمعنى فهو الذي أثبتها، لكنهم سيتحاكمون إلى مسألة أن الأول لا يتغير تمامًا، وغالب الظن أنهم حاكوا الأشعرية في هذا، ليقولوا بإثبات أن أحرف القرآن أزلية! ومن هنا ألف ابن قدامة رسالة بعنوان (الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم)، وهو ما تسلط عليه الكوثري بالتندر، وبحق، كيف ستكون الأحرف أزلية، دون انتقال من حرف إلى حرف، كيف سيقول الكلمة الواحدة، والكلمة نفسها تشهد بعدم أزلية حروفها، حيث ينتقل المتكلم من حرف إلى حرف.
لم تكن مسألة المحرك الذي لا يتحرك تفتعل الإشكالات في موضوع كلام الله فحسب، بل امتد الأمر إلى مسألة القدر، والعدالة الإلهية، فالمعتزلة استعانت بها لتقول بأن الله لا يخلق فعل العباد، وإلا كان العبد مجبورًا، ولما كانت المعتزلة تحتكم إلى نفس الإطار (لا يتحرك) فلا معنى للتفريق وقتها بين فعله ومفعوله عند أكثرهم، فالفعل إما أن ينسب إلى الله أو العبد، فنسبوه إلى العبد.
الأشعرية سترد عليهم بأن الله خلق كل شيء، ولكن الأشعري نفسه لما احتكم إلى مسألة (الذي لا يتحرك)، لم يعد عنده من معنى أن يفرق بين فعل الله القائم به وهو فعل الخلق، وبين مفعول الله وهو الخارج عنه، وهو المخلوق، بل الخلق هو المخلوق عنده، فهو والمعتزلة يتحركون في نفس الإطار النظري.
ولما قالت المعتزلة قتل البرئ ظلم عقلًا، إن قلتم إن الله خلقه، فالله عندكم ظالم! أجابت الأشعرية عن هذا الإلزام فقالوا: إن العقل لا يعرف الحسن من القبيح! بل يتوقف الأمر على الشرع، وهي مسألة (التحسين والتقبيح العقلي).
وليفرّوا من إلزام المعتزلة لهم بنسبة الفعل إلى العبد، كان قول الأشعرية بنفي التأثير، بل بمسألة الاقتران العادي، فالنار لا يوجد فيها خاصية الحرق، إنما يوجد الحرق مقترنا بها، وهكذا، في مسألة أفعال العباد، وعندها قال المعتزلة لهم إنهم مجبّرة، فما معنى أن يكون للعبد اختيار وقتها، وإرادته لا تأثير لها في فعله.
بقي التأثر بمقالات أرسطو ساذجا غير متسق ولا يقيم مذهبًا فلسفيًا متكاملًا حتى جاء ابن سينا، فطرد أصوله، وفجر لوازمه، وأحدث أعظم تأثير في الساحة الإسلامية لربما من بعد جهم بن صفوان على الصعيد الفكري والفلسفي.
عبر ابن سينا عن المشكلة الفلسفية في إطار (المحرك الذي لا يتحرك) كالتالي:
لو كان العالَم حادثا فهذا يعني أنه كان عدمًا قبل أن يوجد، يعني وجوده =0.
ولما كان الأول لا يتغير (لا يتحرك) فهذا يعني أن أي تغير فيه أزلا وأبدا كان=0.
ولكن العالم وجد وصار واقعًا=1.
فمن أي جاء إن هو كان=0، والمحرك الأول بقي على حاله، دون أي تغير بل نسبة التغير = 0؟
هذا يعني أن العالم لا موجد له أبدًا، وهذا قول الدهريين، فلو كان الأول سبب وجود العالم لكان مجرد وجوده كافيًا لإيجاد العالم، لكنه كان موجودًا قبل العالم دون إيجاد للعالم، ولم يتغير فيه أي شيء، فمن أين جاء العالم إذن؟!
سيحاول ابن سينا الجمع بين كون العالَمِ متحركا، وأن الأول لا يتحرك، وفي نفس الوقت بين اعتقاد المسلمين بأن الله خالق، فاستعان بأفلوطين لإخراج توليفته النظرية.
قال ابن سينا بأن العالم (غير الله) ممكن الوجود وبنفس الوقت هو أزلي، ووجوده من غيره أي من الله، أو (المحرك الأول)، وإيجاد الله له كان دون أسبقية زمنية، بل عن طريق الفيض، ليضمن أنْ لا يتحرك، وشبه الأمر بشعاع الشمس، فالشعاع لا يسبق الشمس ولا يتأخر عنها، ووجوده منها لا أنه مستقل عنها.
وليدلل ابن سينا على أسبقية الله غير الزمنية للعالم ضرب مثالا على ذلك، وهو أنك لو كنت تضع خاتما في إصبعك، ثم حركت يدك، فإن حركة يدك هي علة تحريك الخاتم، ومع ذلك فحرك يدك لا تسبق حركة الخاتم زمنيًا، وعنده الله علة وجود العالم لكنه لا يتقدم زمنيًا على العالم.
وبنفس الوقت حاول أنْ لا يقع بمشكلة عدم علم الله بالكون كما حصل لأرسطو، فقال ابن سينا بأن الله يعلم كل شيء إلا الجزئيات الحادثة، ومن هنا قال بأن علم الله كلي، وعلمه بالجزئي يكون لغير الحادث حتى لا يقع بمشكلة تغير العلم الإلهي فهو لا يتغير.
نظرة ابن سينا للعلم الإلهي تتسق مع المحرك الذي لا يتحرك، فهو علم كلي، مثل علمه بأن البشر يموتون، دون معرفة الأفراد هل هم أحياء أم أموات حتى لا يحصل أي تغير في العلم ما بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، أو علم بالجزئي الذي لا يتغير مثل علمه بأن محمدًا رسول له، دون علمه بأنه بعث أم سيبعث.
وسينبري للرد عليه أحد رؤوس المتكلمين وهو أبو حامد الغزالي، بكتابه (تهافت الفلاسفة) وهو الذي ألف (مقاصد الفلاسفة) ليبين فهمه واطلاعه لمقالاتهم، على أي حال فإن أبا حامد كان قد عكف على دراسة الفلسفة لسنتين، وهو يُحسب على الأشعرية، وتصدى للرد عليهم في كتابه المذكور.
بين الغزالي في مقدمة كتابه التهافت أنه سيرد على ما جاء عن طريق ابن سينا والفارابي وغالبها كانت أرسطية ممزوجة ببعض الأفلاطونية المحدثة، ولم تخل من الأفلاطونية أيضًا، ولم يكن الغزالي خارجًا عن العديد من الأصول المشتركة مع ابن سينا وأرسطو من قبل، حتى قال:
"
غرضهم (أي الفلاسفة المقصودين) نفي التغير عنه (أي عن الله) وهذا متفق عليه".
رد الغزالي على طرح ابن سينا في مسألة قدم العالم، ونظرية الفيض، مع حرصه على الالتزام بأن لا يقع بالقول بأن الأول يتحرك، فكان رده بأن العالم محدث، وأن الزمان تابع للحركة، وأن الأول لا يتحرك، فلا زمن قبل العالم.
وكيف أوجد من لا يتغير هذا العالم، قال الغزالي بالإرادة الأزلية، فالله أزلًا أراد أن يوجد هذا العالم، إنما ظهر العالم إلى الوجود على تقدير أزلي قديم، دون أن يحدث أي تغير في الذات الإلهية.
أما كيف يعلم الله كل شيء دون أن يتغير علمه، فإن الغزالي قال بأن الماضي والحاضر والمستقبل أمور أضافية بالنسبة للخلق، كما يكون الإنسان بجانب اسطوانة، فقد تكون عن يمينه وعن شماله، لكنها واحدة وثابتة، كذلك علم الله بالأشياء، ثابت، وأما الحاضر والمستقبل والماضي فهو إضافي، ثم إن الله منزه عن الزمن كونه لا زمن قبل العالم.
سيرد ابن رشد على الغزالي في كتابه (تهافت التهافت)، ويلزمه إلزامًا خطيرًا في نفي الزمن قبل العالم، ليقول له المحدث (هو المسبوق بعدمه)، وكلمة محدث (كائن بعد أن لم يكن) يشترط لها أن يكون الشيء في الزمن، حتى يصح أن يقال (كان معدوما) أو (مسبوقًا بعدمه) فلما نفيت أنت الزمن قبل العالم، هذا يعني أن العالم غير محدث! فلم يكن قبل العالم زمن، حتى تقول قبل وجوده كان عدمًا، فغلط أن تستعمل كلمة (قبل) فهي لا تكون إلا بزمن!
هذا الإلزام هو نفسه الذي سيقول به هوكنج في كتابه (موجز تاريخ الزمن) بعد ابن رشد بقرون، ليقول بإن العالم أزلي، رغم قوله بحدوث الانفجار الكبير، لماذا؟ لأن الزمن عنده لا يبدأ إلا في العالم، فلا يوجد شيء قبل العالم، لأن (قبل) ملغية، وبهذا يكون عنده العالم أزليًا فهو الأول ليس قبله شيء.
أما الاستدلال بأزلية الإرادة لحل مشكلة حدوث العالم، فهذه رد عليها ابن رشد بشكل أوضح في كتاب أخر اسمه (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة)، وهذا الكتاب من أهم كتبه في نقد كلام المتكلمين، فكان رده فيه، بأن ما فعله الغزالي مجرد نقلة، فالمشكلة كيف يوجد العالم ويضحي =1، والأول لا تغير فيه وظل حاله=0.
والغزالي لم يصنع شيئًا فقط نقل هذه المسألة نفسها، وبدل أن يقول الأول قال الإرادة الأزلية! فقال له ابن رشد وهذه الإرادة أيضًا لم تكن تغيرت، وكانت على حال واحد، فكيف وجد العالم بها، وهي موجودة أزلًا، وقد زعمتم أنه محدث متأخر عنها، فما الذي جد؟
بالنسبة لموقف الغزالي من العلم وأن الزمن إضافي فيه، وليس في علم الله أدنى تغير، فالمثال الذي ضربه وهو الاسطوانة، وهي عمود طولا وعرضُه دائري، فلو كان الإنسان بجانبه سيقول هو شمالي ولكنه لو غيّر مكانه سيقول هو يميني، مع أن العمود واحد ولا فرق بين هذه الجهات فيه، وليس هو شمالًا أو يمينًا مطلقًا، بل بالنسبة للإنسان الذي يدور حوله، فهو شمال الإنسان أو يمينه أي مضافًا للإنسان، وإلا فالاسطوانة نفسها لا فرق في ذاتها بين شمال ويمين فكلها نفس الشيء في ذاتها.
معنى هذا المثال أن المستقبل والماضي والحاضر مجرد إضافة للخلق، وإلا ففي علم الله لا فرق بين هذه الظروف الزمنية، فهو يعلم الأشياء قبل وعند وبعد وجودها أزلًا، والقبل والبعد نسبة إلى المخلوق لا إلا الله.
وممن انتصر للغزالي محقق كتابه (تهافت الفلاسفة) وهو سليمان دنيا، فقد حقق كتاب (الإشارات والتنبيهات) لابن سينا وعقد مناقشة مع ابن سينا أول الكتاب، وحاول بداية متابعة الغزالي في قوله، في بداية رده على ابن سينا، ولكنه اكتشف أن هذا لن يصح! ففي مثال الغزالي مغالطة تمنع من النتيجة التي حاول الوصول إليها.
لقد كانت مغالطة الغزالي لا توصل إلى النتيجة التي أرادها، فالاسطوانة في مثاله لا يجري عليها أي تغير، بخلاف ما لو قيل: لم تكن موجودة ثم نصبت، ثم هدمت، فحتى ولو علم بأنه سيكون هناك اسطوانة تبنى ثم تهدم، وأن هذا العلم لا يتغير، لكن الحديث يجري هنا عن وجود الاسطوانة إن كان يعلم أنها موجودة في الواقع وقت وجودها، هذا يعني أنه تغير علمه بأنه ستوجد سلفًا قبل أن توجد عنه بأنها هدمت.
وبعد هدمها هذا يعني أنه إن علم أنها هدمت أن علمه بوجودها حين كانت متحققة الوجود اختلف إلى أنها كانت موجودة، وهذا تغير، ولذا لم يقدر سليمان دنيا أن يبقى على موقفه الأول بأن العلم لن يتغير أبدا في الجزئيات الحادثة بل قال إنه تغير، ثم فر إلى التفويض!
كمنت مغالطة الغزالي بضربه مثالًا لشيء ثابت كالاسطوانة لا تختلف جهاته، في حين إنه نفسه يختلف بين ماض وحاضر ومستقبل، يختلف إلى درجة الفرق بين وجود الاسطوانة وعدمها، وبذا بقي طرح ابن سينا محتفظًا بما حواه من لازم على مسألة المحرك الذي لا يتحرك (الذي لا يتغير) في جانب العلم.
وقد ضرب الطوسي مثالا لتوضيح التغير على فكرة ابن سينا، بأن العلم الأزلي بأن محمدًا سيدخل البيت ثم يخرج منها، سيختلف لما يدخل محمدٌ البيت، ولو من باب علمه بتحقق علمه القديم فيه، فهو دخل البيت وسيخرج، فلما يخرج إن كان علمه بأنه خارج في الواقع فلن يكون هذا مماثلًا لعلمه الأول فيه، فقد كان علما بالغيب (سيحدث) ثم صار موافقا لعلمه بالحاضر (حادث) ولم يعد علما بأن سيحدث.
كان رد ابن رشد على الغزالي يتلخص بأن الغزالي يستعمل طريقة جدلية لا تقوى على نقاش أصول الفلاسفة، بل يستعمل أسلوب التشغيب فحسب، والغزالي نفسه قال إن مهمته في (تهافت الفلاسفة) التكدير عليهم لا تمهيدا لحق، ولذا حاول تأليب كل الفرق وحشد كلامها وإن كان هو نفسه معارضًا لبعضها.
وقد قال ابن رشد بأن كلام الإشعرية سفسطة لا طائل من ورائه، فما معنى أن تقول العالم وجد بالإرادة الأزلية إن كنت تسلم بأنها غير متغيرة، فيظل الأمر هو هو، كيف نشأ محدث عن قديم لا يتغير؟ وهنا يقول بأنهم لو قالوا بأن الله يقوم به الأفعال الاختيارية لخرجوا عن هذه الإلزامات ولكنهم لم يفعلوا (وهو ما سيستفيد منه ابن تيمية لاحقًا).
وقال ابن رشد بأن الغزالي انحصر في دراسة الفلسفة بكتب ابن سينا، ومن هنا وقع قصوره في دراسة الفلسفة، وقد استدرك ابن رشد أمورا على ابن سينا لم تكن تصور الأرسطية بشكل صحيح.
ولقد كان الغزالي كفر الفلاسفة في ثلاثة مسائل وهي أزلية العالم، وعدم العلم بالجزئيات الحادثة، ونفي البعث الجسماني، يعني أن البعث لا يكون للجسد بل للروح أو النفس فحسب.
رد ابن رشد على تكفير الغزالي للفلاسفة في مسألة قدم العالم بأكثر من موضع، وكان رده في (الكشف عن مناهج الأدلة) بأن الأشعرية أنفسهم نفوا صفة العلو الحقيقي لله مع أن السلف أثبتوها، فخالفوا ظواهر النصوص وفهم السلف، وقال لهم هذه بدعة شرعًا فعلام إذن كان تشددهم في مسألة قدم العالم؟
ثم رد بأنه ليس في النصوص نفي لوقوع خلق قبل العالم، فعلام إذن صارت المسألة تكفيرًا؟ بل إن الرازي بعد الغزالي سيصرح بأنه ليس في الكتب الإلهية تصريح بحدوث العالم.
أما ابن سينا فيستبق الأمر في رسالته (أضحوية في المعاد) ليقول لهم كلانا أوّل ظواهر النصوص في التوحيد، مع أنها مما اتفقت عليه التوراة والإنجيل والقرآن، فعلام إذن يقع التشدد في مسألة تأويل البعث الجسماني، وتكفير من أول ظواهر النصوص فيها؟
لقد وقع تأويل كل نص يفيد التغير، (ثم استوى)، (جاء ربك)، (ينزل الله إلى السماء الدنيا)، وغضبه ورضاه تم تأويلها بالثواب والعقاب ونحو هذا.
وحتى يظل قانون عدم التغير (لا يتحرك) مطردًا قال الأشعري بمسألة (الموافاة)، وهي أن الكافر مثلًا طول عمره كان على الكفر، ثم آمن وتوفي على الإيمان (من الوفاة جاء اسم المسألة الموافاة)، فهل كان الله غاضبًا عليه وهو كافر ثم رضي عنه؟ أو بالعكس شخص آمن وعبد الله طول عمره ثم كفر آخر دقيقة في عمره فهل كان راضيًا عنه ثم سخط عليه؟
قال الأشعري بل لم يزل الله غاضبا على المطيع لعلمه بأنهه سيكفر، ولم يزل راضيًا عن الكافر لعلمه بأنه سيتوب كل هذا مراعاة لمسألة (عدم التحرك) حتى لا يغضب ثم يرضى أو العكس، فإن كان الأمر إلى الحد فلمَ تم تسويغ تكفير الفلاسفة؟
ما أن وصلت المسألة عند ابن تيمية حتى كانت قد انتشرت وصارت مسلّمة بين كثير من الطوائف والفرق، وحتى عصرنا الحاضر لا زلت تسمع من يقول: (سبحان الذي يغيّر ولا يتغير)، كان ابن تيمية قد نشأ على معتقد متأخري الحنابلة، الذي عبر عنه ابن قدامة المقدسي في رسائله وكتبه، وهو من أقل المقالات تأثرًا بهذه المقالة، وإن حصل تأثرًا بها، وقد عبر عن هذا ابن تيمية حين قال إنه نشأ في هذا على معتقد الآباء والأجداد.
ثم مع نضوج ابن تيمية الفكري، مع ما تميز به من عقلية نقدية، بدأ يراجع هذه المسألة مقارنة باتساقها مع الأحاديث والآيات، وكانت خطورة هذه المسألة قد اتضحت له بقوة في مسألة الصفات الفعلية، فالله تكلم بالقرآن، والأدلة توضح بما لا خفاء فيه بأن القرآن منظوم بأحرف، وأن الله وصفه بالمحدث (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث)، وشيئًا فشيئًا اتضح أن الحرص على أزلية الحروف لعدم التغير تابعة للتراث الأرسطي، ومن هنا فقد قام ابن تيمية بثورة حقيقية على أرسطو، سواء في الميتافيزيقا، أو المنطق، حتى وصل إلى مناطق بعيدة ولكنها لم تسلم من التأثير الأرسطي كموضوع المجاز ونحو هذا.
كانت بداية النقد التيمي متوجهة على تخليص المسائل العقلية من سطوة الأرسطية، ومن هنا فقد بيّن أن الفلسفات كثيرة، والخلافات بين أصحابها واسعة جدًا، ومن هنا فمن اقتصر على أرسطو بوصفه المعلم الأول، فقد قصر في جانب العقليات، كما تمتع ابن تيمية بمواجهة ديكتاتورية المصطلحات الجامدة، ومنه فكك الاصطلاحات، فالعقليات منها حق وباطل، والباطل منه لا يتسق مع العقل الصحيح، وإن كان خاضعًا تابعًا لكلام أرسطو وتحريراته.
هذا العالم محدَث وكل محدَث لابد له من محدِث، هذا صحيح، وصورة المسألة أن الممكن، الذي يجوز أن يوجد وأنْ لا يوجد، لابد من مؤثر ليجعله موجودًا، ويخرجه من الحكم عليه بأنه ممكن فحسب، ولكن هذا المؤثر نفسه يحتاج إلى مؤثر فيه وهكذا، وتتسلسل الحكاية، فلو قيل بأن العالم أوجده الله بفعل الخلق، فإن نفس فعل الخلق هذا حادث، فلابد له من حادث آخر أثر فيه وهكذا، فما المانع من هذا؟
هنا يقسّم ابن تيمية الحوادث إلى قسمين:
1-
حادث في ذات الله، وهو الفعل الإلهي.
2-
وبين الحادث خارج الله، وهو المخلوقات.
فالحادث في الله هو أفعاله، وهي بنفسها منقسمة إلى قسمين
1-
حادث متعدٍ خارج الله عز وجل، وهو الذي الذي يوجد المفعول، أي المخلوق، بخلاف الفعل نفسه فإنه غير مخلوق.
2-
وهناك حادث أو (فعل) غير متعدٍ، فلا يلزم منه إيجاد مخلوق خارج الله، مثل صفاته القائمة به التي لا يلزم منها إيجاد مخلوق، مثل الرضا والرحمة، وفي الحديث (ذكرته في نفسي).
وبهذا فإن القرآن وإن كان محدثًا فهو قائم بذات الله، وصفة من صفاته، ويعبر ابن تيمية عن قاعدة يكسر بها ما تم توارثه تأثرًا بالمنظومة الأرسطية ليقول: "كل مخلوق محدث، وليس كل محدث مخلوق".
فكل ما هو مخلوق هو مسبوق بالعدم، وهو خارج ذات الله عز وجل، ولكن لا يلزم من هذا أن كل محدث أن يكون مخلوقًا وهي الأفعال القائمة بالله عز وجل، وبهذا فلا حاجة لتأويل كل آية أو حديث فيها ما يفيد الحدوث، مثل نزول القرآن، أو مجيء الله، أو خلقه ونحو هذا، كما سبق من خضوع للمنظومة الأرسطية.
إن الأفعال الإلهية قبل أن توجد هي ممكنة، فالله كان قادرًا على الكلام بالقرآن قبل أن يقوله، وكان قادرًا على غيره، فجنس الكلام كان ممكنًا لله عز وجل، ولكن لا يكون الكلام نفسه عربيًا أعجميًا في نفس الشيء، فهذا ليس بشيء، حتى يدخل تحت القدرة، كذلك جنس الممكنات خارج ذات الله ممكنة، فالله قادر أن يوجد العالم أكبر مما هو عليه، أو أصغر، لكنه لا يكون أكبر أصغر في نفس الشيء، فمن بين جنس الممكنات، في الأفعال الإلهية يفعل الله منها فردًا، مثلًا يتكلم بالقرآن، وإن كان جنس الكلام هو قادر عليه أزلًا.
كذلك في العالم، فإن جنس الممكنات مقدور عليها، وهي ممكنة، لكن الله يوجد منها فردًا، فالفرد هو الذي يوجد مثلًا العالم الموجود حاليًا، وإن كان يمكن أن يوجِد بدلًا منه عالمًا آخر، وآخر وهكذا، ولكنه يفعل الفرد منه، ولا يفعله اعتباطيًا، بل لحكمة وهي من شروط فعل الخلق، وقديمًا لما كانت الأشعرية يقال لها لماذا رجح وجود هذا العالم دون ما سواه، يقولون: قد يحصل الترجيح دون مرجح، مثل اختيار من فر من سبع طريقًا من طريقين! وكما يرجح الجائع رغيفًا من اثنين، وهذا كله حتى لا يكون الترجيح لحكمة، وهذه الحكمة تحتاج إلى مرجح وتتسلسل الحكاية، أو حتى لا يقعون بالدور، تكون الحكمة علة الخلق، والخلق علة الحكمة، لكن مع ابن تيمية كان النسق مختلفًا، فالفعل يوجد بحكمة، وهذا في الشروط، وهو ما يسميه ابن تيمية بالدور المعي الاقتراني (لمن أراد التوسع فليبحث في هذا).
لقد كانت نظرية ابن تيمية في مسألة الحوادث تقلب الأمر تمامًا في تصور الكثير من المسائل خارجة عن المنظور الأرسطي، وفي نفس الوقت عن تصورنا للعالم، وللزمان ونحو هذا، وليس في مقولته انحصار بقضية الحوادث خارج ذات الله كما يحسب البعض، حتى انصب نقدهم على هذا، أو حتى حاول بعضهم حرف النقاش إلى هذا، بل في المقام الأول تبحث في أفعال الله عز وجل، ولذا لما نقد السبكي ابن تيمية بقصيدة انتبه أن هذا القول يعارض المعتقد الأشعري بداية في مسألة أفعال الله، فقال

يرى حوادث لا مبدا لأولها *** في الله سبحانه عما يظن به

لاحظ أن الحوادث التي يجري الحديث عنها في المقام الأول هي القائمة في الله.
أما المسألة التي قال الرازي بأنها صعبت على الكل، وهي أن هذا العالم وإن كان محدثًا، فقد كان قبل وجوده ممكنًا، وقبل هذا كان ممكنًا ويستمر هذا الإمكان إلى الأزل، وفي نفس الوقت تعين منع قدم شيء من الوجود مقارنًا لخالقه، ووصف المسألتين بالصحيحتين، مع اجتماعهما، فيقال بأنه كما إن جنس الممكنات يدخل تحت القدرة أزلًا، فإن الشيء لا يكون موجودًا معدومًا معًا، وإن كان الاثنان ممكنين، كذلك فإن إمكان العالم أزلًا، يتعلق بجنس المقدورات، أما عند الإيجاد فتوجد الأشياء معينة دون نقيضها معًا، ومن هنا كان حل ابن تيمية بالتفريق بين الجنس وبين الأفراد، فالعالم وإن كان لا يوجد إلا بعد خالقه، إلا أن الإمكان بإيجاد غيره قبله، يتعلق بجنس الممكنات، ثم إن وجدت فلا يوجد أي معين إلا وخالقه قبله.
وهنا يخالف ابن تيمية الفلاسفة القائلين بقدم العالم كأرسطو وابن سينا، مهما حاول ابن سينا تعديل كلامه، والخلاف معه في تحقيق معنى الخلق، فلا يوجد مخلوق إلا وهو متأخر عن خالقه، لا يكونان معًا، وما استدل به ابن سينا بأن الخاتم إن كان في إصبع، وحركت يدك فإن الخاتم يتحرك مع اليد، رد عليه ابن تيمية بأن حركة اليد متقدمة زمنيًا على حركة الخاتم، وإن كان زمن ذلك قليلًا جدًا، كذلك شعاع الشمس فإن له وقتًا (واليوم نعرف هذا) وليس مثل ما قال ابن سينا بأنه عن الشمس ولا يتأخر عنها أبدًا.
أما ما قاله الغزالي بنفي الزمن قبل العالم، بناء على نفي أي حادث قبل الزمن، فإن الزمن هو النسبة بين الحوادث، فإن ابن تيمية يرد عليه بأن الزمن إن قصد به نسبة ما بين الحوادث المخلوقة، فهذا مسلم، إما نسبة ما بين حادث وحادث في ذات الله عز وجل فهذا ممتنع، وعليه فتسقط حكاية نفي (القبل) لامتناع الزمن تمامًا، لوجود حادث قبل المخلوق، وإن كان هذا الحادث في ذات الله، وهو فعل الخلق، ولا يلزم من قياس هذه النسبة أن هذا القياس أو التقدير موجود خارج الذهن مع الله، بل هو محض تقدير ذهني، والموجود في الواقع هو الحادث الذي قام في الله عز وجل.
كان في الطرح الذي قدمه ابن تيمية وهو فلسفيًا استفاد الكثير من غيره، وإن كان قد أنتج بناء فلسفيًا متسقًا متميزًا ينضح بالأصالة، لا تحشية على متن أرسطو، ولا يمكن لأي فيلسوف أن يتحرك بمعزل عن جهد من سبقه لينتج بناءً فلسفيًا، ومع ذلك كان محتكمًا بشدة للنصوص الشرعية وأفهام من سلف، مثل (كل يومٍ هو في شأن) ولذا قال البخاري: "وقوله تعالى: (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا) وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين"، وهذا قبل ابن تيمية، استفاد من أطروحات الدارمي في رده على الجهمية والمريسي بشدة، وفي نفس الوقت استفاد من إشارات ابن رشد، واعتراضات الرازي بل وما التزمه ابن سينا، وبين بهذا أبعاد طرح أرسطو.
ساهم في حل جديد يخرج عن المدرسة المعتزلية والأشعرية في مسائل متعددة مثل التحسين والتقبيح العقلي الذي نفته الأشعرية لما لم تفرق بين فعل الله ومفعوله، فالله عند ابن تيمية يخلق المفعول ولا يوصف بصفات المفعول المخلوقة بل لا يوصف إلا بفعله القائم به وهو الخلق بحكمة، ومن هنا كان كتاب سامي عامري (مشكلة الشر) مجيدًا في هذه النقطة وهو يقتبس فيها عن ابن تيمية، ولكنه نفسه يناقض ما طرحه في كتابه المذكور في كتابه الآخر (فمن خلق الله) حيث نفى قيام الحوادث في الله، ومن هنا تبرز كلمة الكاظمي: لا معنى للتفريق بين الفعل والمفعول، متى قيل بامتناع قيام الفعل به (أي قيام الحوادث)، فالكتابان لهما وجتهان متناقضتان.
لا يتوقع من هذه الصفحات أن تكون قد أجابت عن جمهور الأسئلة المتعلقة بمسألة تسلسل الحوادث، إنما حسبها أنها سهلت الأمر إلى أقصى ما يمكنني من تسهيل، ليدرك القارئ أبعاد المسألة والعديد من لوازمها، ولو لم يكن من فائدة إلا تصوير وعورة المسألة ودقتها لكفى بها من فائدة، وختامًا أقول: هذه الصفحات ليست بحثًا موثقًا، إنما هي محاولة للتسهيل كتبتها مرتجلًا دون مراجعة، فمن فهمها فلعله ينشط للقراءة أكثر في المسألة، ومن لم يفهمها وهو معني بالمسألة فيقال له: تعلم، ولا تسارع باتخاذ موقف في المسائل هذه بمحض الانحياز العاطفي، أو التقليد الأعمى.
ومودتي لكم جميعًا..