5 غشت 2015
خرائط ذهنية
1
لماذا نكتب حتى وإن لم ينشر؟ لأن الكتابة توضح لنا
أنفسنا، تنظم ما ازدحم، على أي حال لا بد لثقل الفكر أن يتسرب قليلا إلى الحروف،
حتى يساعد الذهن في حمله، وهذه بعض من خرائط الذهن، تفكير بصوت عال فحسب..
بداية لا بد لهذه الخرائط أن تعترف سلفا أنها لا
تدعي امتلاك الحلول بقدر إعادة طرحها للإشكالات، والأسئلة الأولية، وإن طرحت شيئا
فهي شذرات تحتاج إلى جهود كبيرة للبلورة، تحتاج إلى توسيع بأكبر قدر ممكن للأرضية
المعرفية التي تعمل عليها، فهي تعمل وفق أقل قدر من المواقف على أكبر قدر من
الأرضية المعرفة.
وكم تثقل غشاوة التشبع بما لم يعط المرء النظر
الصحيح! في الوعي الجمعي، عبر شبكة موروثة، من ادعاء العلم اللدني –إلى الحديث في
كل علوم الأرض، التي لا تزال ظلالها حاضرة بعد صدمة الحداثة التي أصابت المنطقة..
فشيء متوقع أن يطالبك قارئ في منتصف الطريق برنامجا
للكون بأسره، برنامجا لدول عظمى وحلولا لقضايا كبيرة، في عمل وفق الإطار السابق
الموروث، الذي يتجاوز كل التعقيدات، ويعمل وفق مغالطة الاستدلال بالجهل فلان طرح
قوله فاطرح أفضل منه أو سلم بكلامه..
وهذه المقاطعة لا يلتفت إليها مشغول بالأهم، وهي
عنصر تشتيت فحسب.
وذلك أن القضايا لا تحصر، وإن كان لا بد من تفكير بعمق، فينبغي التفكير في الحلقة الأهم من السلاسل، أو قل الحلقات الأهم (أحجار الزاوية) النقاط التي إن تغيرت تغير الكثير لا التغيير الجزئي البسيط..
وذلك أن القضايا لا تحصر، وإن كان لا بد من تفكير بعمق، فينبغي التفكير في الحلقة الأهم من السلاسل، أو قل الحلقات الأهم (أحجار الزاوية) النقاط التي إن تغيرت تغير الكثير لا التغيير الجزئي البسيط..
تجد بعض الناس يدور في فلك محصله قضايا هزيلة، مثلا
بعضهم يبحث عن حكم تزين المرأة بالمساحيق ويجيزه، ثم نمص الحاجب ويجيزه ثم الألوان
التي يجوز لبسها ثم ثم ثم، في الختام ما المتوقع أكثر من افتتاحه معرضا للأزياء
التي يراها شرعية! أو محلا للتجميل الشرعي بنظره! هل هذه حلقة أهم أم هي شيء ثانوي
لا عمق فيه ولا كبير أثر في سير المجتمعات هذا بقطع النظر عن صحة الاستنباطات من
عدمها.
إحدى مشاكل العقل الإسلامي (ونسبته هنا تشريف أكبر
من كونها محتكمة له) هي الهوس بكلمة (شمول) فيظن أن عليه أن يعلق على كل حدث! من
دهس قطة في الشارع إلى إخوانه المسلمين في كولالمبور!
ثم في المحصلة لا وزن لكلامه علميا ولا عمليا!
ثم في المحصلة لا وزن لكلامه علميا ولا عمليا!
إنما تفريغ شحنات على وزن الصراخ في فلاة، ليشعر
بتحسن من الضغوط اليومية! ويعود إلى
حياته كما كان دون أي تغيير حقيقي في نظره للواقع أو التغيير هو للأسوأ في عالم من
أفيون الأحلام البعيدة عن واقعه ومشاكله...
إن المرء الذي يعيش اليوم، يحيا في واقع لا يحيا في عالم الأحلام، يعيش في عالم له ارتباط بماض وله تعقيدات حاضره ويفترض فيه أن ينظر إلى المستقبل وفق هذه المعطيات، لا يفكر في تأملات تتساوى مع فيلسوف معتكف في غابة! على أن الفيلسوف نفسه يتعاطى هذه الجرعات لنسيان واقعه أيضا!
إن المرء الذي يعيش اليوم، يحيا في واقع لا يحيا في عالم الأحلام، يعيش في عالم له ارتباط بماض وله تعقيدات حاضره ويفترض فيه أن ينظر إلى المستقبل وفق هذه المعطيات، لا يفكر في تأملات تتساوى مع فيلسوف معتكف في غابة! على أن الفيلسوف نفسه يتعاطى هذه الجرعات لنسيان واقعه أيضا!
2
على أن عيش الهم الواقعي للتغيير، لا يعني ذلك
التغيير الجزئي الثانوي الذي يتقنه محبو التحليلات السياسية! ونسج المؤامرات
الكونية في إعاقة ذهنية عن أي قدرة على التحليل، وتخيب معه عشرات التحليلات وإذا
أصاب بواحدة حسب أنه الألمعي الفذ: ألم يتنبأ بهذا من قبل! دون بيان منهج محدد
يكرر العملية بأقل قدر من الأخطاء! إنما ينتظر فرصة أخرى!
فرانسيس بيكون أحد أهم رواد النهضة الأوربية يذكر هذه المغالطة في كتابه (الأورجانون الجديد) باختصار يحكى أن أحد القساوسة أراد أن يعظ الناس فأتاهم بصور أشخاص، وقال لهم هل تعرفون أن كل هؤلاء نجوا من الغرق عبر حوادث البحر لأنهم دعوا المسيح لينقذهم، فقال له أحد الفطناء: هذه صور من دعوه ونجوا فأين صور من دعوه وغرقوا!؟
فرانسيس بيكون أحد أهم رواد النهضة الأوربية يذكر هذه المغالطة في كتابه (الأورجانون الجديد) باختصار يحكى أن أحد القساوسة أراد أن يعظ الناس فأتاهم بصور أشخاص، وقال لهم هل تعرفون أن كل هؤلاء نجوا من الغرق عبر حوادث البحر لأنهم دعوا المسيح لينقذهم، فقال له أحد الفطناء: هذه صور من دعوه ونجوا فأين صور من دعوه وغرقوا!؟
إن الهم الواقعي، عليه أن يعي أولا قدرة الانشغالات
اليومية في إعاقة الذهن عن القدرة على الربط لما تم تجريده، جامعا الكثير من
التفاصيل فيتعامل مع إشكالياتها، دون الحاجة إلى حل كل جزء مفردا، عبر قدرة ذهنية
عالية تجمع بين المختلفات بجوامع تصلح لوضعها في كلمة تدل عليها فكيف بجملة مفيدة،
فكيف بنظرية عامة..
إن الهوس بما هو شمولي يجعل الكثيرين ينبهرون
بالتفاصيل في مواضيع مختلفة، حتى ولو لم يجمع بينها جامع، وهذا ما يفسر -إلى حد
ما- انتشار شعبية عدد من الناس ممن لا توجد عندهم أي منهجية في التعامل مع القضايا
سوى تبسيط النظريات المتنوعة، وإن نقد فبذكر رد كل منها على الآخر وهذا الأسلوب
الجدلي يصلح كمرحلة في التفكير فحسب، وإلا فما المحصلة إن لم يوجد منهج يزن تلك
الانتقادات المتناقضة ويبين عوار الباطل منها، ويقر الصحيح، فكل نظرية عليها رد،
وكل رد عليه نقد، وكل نقد سيأتي من ينقده وهكذا (هنا تبرز نظرية المعرفة بقوة)..
إن الشمول يتحول إلى كثير من الأحيان إلى (فوضى) في
المعرفة، وإلى تجاهل تام لما يقتضيه الواقع من تقديم أولوية، أو حذف احتمال مفترض..
إن النسيج الموروث من الشبكة التي تدور فيها
الأفكار الجمعية، محتكمة في كثير من تصوراتها لما تم تصديره عبر عصور دون نقد
حقيقي، أو بإغفال ما تعرض له من نقد تجعله في حيز (غير المفكر فيه)، ويصير صادقا
عليه القول بأن المجهول كالمعدوم!
ومن ذلك الاحتكام لمنهجية ارسطو في الجوهر والعرض،
وهي ذاتها موجودة عند أفلاطون مع اختلافات في التوظيف عبر الإطار الفلسفي العام
لكل منهما، وهذا مجهول عند العموم المحتكم دون أن يعرف مصدر ما يردده أو في إطار
أي فكرة يتحرك، فقد ورث ذلك والسلام، وهذا ما يتميز فيه الواعي بتلك الشبكة عبر
الخروج عن السطح المفكر فيه والتفكير من فوقه! والتي لم يصل إليها إلى بتسلقها
نقدا وتتبعا لمصادرها التاريخية.
أرسطو الذي تسرب عبر الترجمة ثم صار يدرّس في حلقات
التوحيد، والتفسير والفقه واللغة وغيرها، وساد في القرون الوسطى وفق الظروف
التاريخية المهيئة لذلك، في أوربا تم فقدان سلطان أرسطو قليلا قليلا عبر التغيرات
الواقعية في المتدرجة التي نتجت فيها فلسفات تملأ الفراغ الذي تخلفه أطروحات أرسطو
وأفلاطون الموروثة عن توما الأكويني..
بخلاف صدمة الحداثة التي أصابت المنطقة، فنقلت الكثيرين من رعي الاغنام إلى سيارات بمحركات آلية! دون توسط متدرج! لتبقى آليات أرسطو في التعامل مع الجوهر والعرض وكأنها لم تمس بسوء، لتنشأ عملية التبرير والتلفيق بينه وبين الحاضر، بآلياته هو ففيه الخصام وهو الخصم والحكم هنا!
بخلاف صدمة الحداثة التي أصابت المنطقة، فنقلت الكثيرين من رعي الاغنام إلى سيارات بمحركات آلية! دون توسط متدرج! لتبقى آليات أرسطو في التعامل مع الجوهر والعرض وكأنها لم تمس بسوء، لتنشأ عملية التبرير والتلفيق بينه وبين الحاضر، بآلياته هو ففيه الخصام وهو الخصم والحكم هنا!
3
افتراض وجود جوهر وعرض في الأشياء كان دائما يعمل
في عالم بطيء التغير جدا، المحراث هو هو، والحصان الذي يحرث بقي طويلا، يقال بأن
الإنسان الأوروبي الذي عاش عام 500 م، لا يختلف كثيرا عن الإنسان الأوروبي الذي
عاش 1500 م..
كان الجوهر واحدا والباقي أعراض، لا تهم كثيرا، وفقا للاحتياجات البشرية المحكومة بتلك الظروف، ووفقا للتغيرات البطيئة، فركوب الحصان أمر جوهري عند الناس في تلك الفترة، المحراث وظيفته حرث الأرض، النار الطبخ مثلا، السم قاتل للأعداء، ووفقا للمفاهيم المثالية التي سادت في أثينا وتسللت لما بعدها كان يمكن تصور الجواهر دون أعراضها! منفصلة في حالة تأملية ثابتة تختصر عصرا غلب عليه الثبوت، والتأمل والتجريد.
كان الجوهر واحدا والباقي أعراض، لا تهم كثيرا، وفقا للاحتياجات البشرية المحكومة بتلك الظروف، ووفقا للتغيرات البطيئة، فركوب الحصان أمر جوهري عند الناس في تلك الفترة، المحراث وظيفته حرث الأرض، النار الطبخ مثلا، السم قاتل للأعداء، ووفقا للمفاهيم المثالية التي سادت في أثينا وتسللت لما بعدها كان يمكن تصور الجواهر دون أعراضها! منفصلة في حالة تأملية ثابتة تختصر عصرا غلب عليه الثبوت، والتأمل والتجريد.
ومن هنا كان دور أولئك الذين يقولون هذا بكثير من
التعقيد، بتفصيلات كتحديد الماهيات بتعريف جامع مانع، فيه جنس وفصل ليصير حوارهم
في ماهيات مجردة عن الواقع وخصامهم مماحكات لفظية للتعبير عن هذا بأفضل طريق ممكن
وفق هذا الإطار المرجعي العام.
هذا بدأ يتضعضع كلما بدأ العصر يتغير أسرع، وبدأ ما
قيل أنه جوهر حينا يتحول إلى عرض باختلاف زاوية النظر إليه! ليصبح الحصان زينة
أحيانا كثيرة، وهواية، ورياضة، ولا تعني أي شيء قولك حيوان صاهل! ولا تفسر أي جديد
طرأ أو يمكن أن يطرأ على معرفتنا وحاجاتنا وقدراتنا، كغاية تعبر عن حاجات عصر آخر،
ليصبح السم القاتل شفاء أو مركبا لأمر آخر.. اختلف الجوهر والعرض باختلاف زاوية
النظر.. لاختلاف حاجات البشر، وبزيادة العلم تنوعت القدرات على استعمال الاشياء،
وأضحت البحوث المحتكمة لحذلقات لغوية، وتلاعبات ذهنية كالتعامل مع الجوهر منفصلا
عما وصف أنه عرض! كتخيل غراب دون ريش! ودون لون ودون
طول ودون عرض صار من خرافات الزمن البائد، وبذا تهددت أفكار الكنيسة التي حدثتهم
طويلا عن المسيح والاهوت والناسوت!
وبدأت مسارات البحوث تنحو منحًا مختلفا عن هذا،
وانطلقت من حيث انتهت سابقاتها، ولم تبق تدور في حد الحصان! الذي يكشف عن حقيقته،
بل انطلقت إلى البحوث العلمية التجريبية التي تبحث في الواقع وتفصيله لا ما في
الألعاب الذهنية وتفصيلاتها الأرسطية كما كان الأمر سابقا.
هذا يختلف عن عقلية لا زالت تنظر للعالم وفق هذا الإطار الذي علقت فيه ولم تخرج منه بتدرج علمي وفكري ينزع الكثير من سلطانه.
عقلية الجواهر الأرسطية تفسر إلى حد ما ذلك التكرار للشعارات العامة التي لا تفسر الأمور بأكثر من قولك عن الحصان حيوان صاهل، فتجد مثلا من مميزات الطرح الفلاني = الربانية، الوسطية، الإنسانية، العالمية... إلخ!
وتغيب عن تحديد الأمور كما هي في الواقع بتلك اللعبة الذهنية المحكومة في الكثير منها إلى أرسطو ذلك العملاق الذي تمت إحالته إلى المتاحف بالتقادم!
هذا يختلف عن عقلية لا زالت تنظر للعالم وفق هذا الإطار الذي علقت فيه ولم تخرج منه بتدرج علمي وفكري ينزع الكثير من سلطانه.
عقلية الجواهر الأرسطية تفسر إلى حد ما ذلك التكرار للشعارات العامة التي لا تفسر الأمور بأكثر من قولك عن الحصان حيوان صاهل، فتجد مثلا من مميزات الطرح الفلاني = الربانية، الوسطية، الإنسانية، العالمية... إلخ!
وتغيب عن تحديد الأمور كما هي في الواقع بتلك اللعبة الذهنية المحكومة في الكثير منها إلى أرسطو ذلك العملاق الذي تمت إحالته إلى المتاحف بالتقادم!
4
أرسطو ذلك الرجل الغريب عن البيئة الإسلامية لم يكن
من السهل على المرددين لأقواله في وسط مؤمن، أن يعترفوا بمصدرها، وإن دفعتهم أمانة
المعرفة إلى نسبتها إلى أرسطو أحيانا فقد دفعهم تبرير موقفهم إلى اختراع قصص
لإثبات إيمان الرجل! كتلفيق قصة الإسكندر الأكبر مع ذي القرنين المذكورة في القرآن
واستنتاج أنه هو، وأرسطو معلمه، بعضهم وصفه بالنبي! أو بأنه اطلع على تراث
الأنبياء ونحو هذا.
وبعضهم وصفهم بالحكماء، وكلام الحكماء لا يعارض
كلام الأنبياء ولا يقدر أحد على اتهام الأنبياء بقلة الحكمة (في تمرير لمغالطة
المصادرة عن المطلوب باعتبار الحكمة في كلام أرسطو وأفلاطون فحسب أحيانا كثيرة).
عملية التلفيق هذه التي دارت حولها أفكار تلك
الفترة، كانت المعارضة فيها تشبه ما يقال اليوم بـ (المقاومة السلبية) وكانت في
الإطار الفلسفي (سلمية)، بمعنى أنها ترفض ذلك وفي نفس الوقت
لا تدخل في جدال معهم!
وتكتفي بالحفاظ على الإرث الأصيل دون تغيير بتسلل
العناصر الأجنبية عنه إليه، إن نصا، أو تأويلا..
وهم بذلك خدموا الأرضية النظرية الثورية على أرسطو فيما بعد.
وهم بذلك خدموا الأرضية النظرية الثورية على أرسطو فيما بعد.
أرسطو الذي تعرض لممانعة ضعيفة من هنا وهناك من أهل
الكلام الأوائل قبل أن يبتلع المتأخرين منهم. كان يتسرب في البحوث المتداولة في
شتى المواضيع، ويتشكل مع الشبكات المعرفية لأنظمة الخطاب في تلك الفترة، وإن كانت
بصورة غير تامة له، لكن عناصر منظومته متجذرة فيها.
صراع أهل الرأي قديما مع أهل الحديث الذين رفضوا أي
عنصر أجنبي على الأصالة الإسلامية، أسفر عن علم أصول الفقه الذي أرسى الشافعي
ثورته فيه في كتابه (الرسالة)، هذا الكتاب الذي ينبه على أصالة (غير تلفيقية) في
ممانعة الدخيل.
لكن هذه المنهجية الفذة لم تمتد إلى بحوث أخرى فيما
بعد إلى فترة، بل طغيان المنهج الأرسطي حاول احتواءها! فصارت بحوث الكلام المتأثر
بأرسطو تمتد إلى علم الأصول! وبذا تتأثر الفروع!
على أن كتاب الشافعي نفسه يحوي بذور رفض إدخال
المنهج الأرسطي في الأصول، لكن عملية احتواء الأصول ممن تأثروا جدا بأرسطو تنبه
على قضية مهمة، وهي عدم الاغترار بالأسماء المجردة، فكم من منتسب للشافعي خالف
أصوله!
وأهل الحديث الذين حاول خصومهم نعتهم بقلة الفقه حتى توجع الشافعي لقلة الإنصاف في (جماع العلم) على هذا النعت، كانوا هم الفئة الأقدر على محاربة الدخيل، ببساطة لصيانتهم الموروث عن أي امتزاج حتى وإن لم يجابهوه على الصعيد الفكري حتى تلك الفترة.
وأهل الحديث الذين حاول خصومهم نعتهم بقلة الفقه حتى توجع الشافعي لقلة الإنصاف في (جماع العلم) على هذا النعت، كانوا هم الفئة الأقدر على محاربة الدخيل، ببساطة لصيانتهم الموروث عن أي امتزاج حتى وإن لم يجابهوه على الصعيد الفكري حتى تلك الفترة.
وهنا يبرز دور يجب تحليله للحنابلة بين أهل الحديث..
فأحمد بن حنبل الذي عرف كأشد الخصوم للدخيل الأرسطي
في وجه المعتزلة، كان كثير من خصومه يحاولون سحب وصف الفقه عنه، وجعله محدثا فقط،
وامتد هذا لغير خصومه (كشيء متوقع في نسيج المعرفة التي لا تعرف الفراغ ويملؤها من
يردد أكثر وما يقال أكثر) فكان كثير من الكتب يذكر خلاف العلماء دون أي ذكر لأحمد
(اختلاف الفقهاء: ابن جرير الطبري مثلا لا تجده يذكر احمد فيهم) تجد كتاب
(الانتقاء في فضل الثلاثة الأئمة الفقهاء) لابن عبد البر دون ذكر لأحمد بن حنبل..
هذا الذي جعل الحنابلة يحاولون إثبات فقه أحمد
والعناية بمفرداته كدليل على أن الخلاف معه ليس ترديدا للخلاف بين الثلاثة فحسب.
يتبع إن شاء الله
يتبع إن شاء الله
5
تهميش الحنابلة إلى حد بعيد كان له جانب مهم في التأثير
عليهم، بانعزالهم = إلى حد ما عن الصراع الكبير بين المذاهب إلى حين، فالخلافات
بين أتباع المذاهب الثلاثة، ووجود بعضها في السلطة، دفعها إلى التفتيش عن منظومات
تعزز صحتها وترد على خصومها، المذهب الحنفي كان فيه ما يغري السلطة الحاكمة، مثل:
عدم وجوب تطبيق الحد (فيما فيه حق لله) على الإمام الاعظم (الخليفة) لقد كان أمرا
برّاقا بالنسبة لها.
كما أنهم لا يعتبرون الإكراه عذرا يمنع من إيقاع
الطلاق والعتق! ومعنى هذا باختصار تعزيز السلطة الحاكمة، إذ كانت تعمل وفق (أيمان
البيعة) أي البيعة التي استحدثها الحجاج بن يوسف الثقفي، ومفادها أن المبايعين
يقولون بأن نساءهم طوالق وعبيدهم أحرار ومالهم صدقة ونحو هذا إن نكثوا البيعة.
كان غير الأحناف يقولون بأن هذا واقع تحت الإكراه
فلا عبرة به! وهذا بنظر السلطة تقوية لموقف الناكثين لبيعتها.
كما أن توسع الأحناف في الرأي أوجد بينهم رؤوسا في منظومات كلامية كان لها تأثير كبير، كبشر المريسي الذي أخذ الفقه عن أبي يوسف أحد أعمدة الفقه الحنفي.
كما أن توسع الأحناف في الرأي أوجد بينهم رؤوسا في منظومات كلامية كان لها تأثير كبير، كبشر المريسي الذي أخذ الفقه عن أبي يوسف أحد أعمدة الفقه الحنفي.
بطبيعة الحال سيسعى المخالفون للسلطة وحلفائها
الأحناف إلى البحث عما يقوي مواقفهم، ولذا ستجد المنظومات الكلامية لها علاقة
وطيدة بالفقه الذي له علاقة بالسياسة.
لا يعني هذا استثناء الحنابلة، فقد تأثر عدد منهم
بالمنظومات الكلامية المختلفة لكنهم أقل من غيرهم في هذا، لقلة انتشارهم مقارنة
بغيرهم، وانشغالهم بالحديث، وإمامهم نفسه كان حريصا على البعد عن السلطة حتى بعد
انتهاء فتنة خلق القرآن.
المنظومات الكلامية تتصارع وتتوزع على المذاهب، تجد
مثلا الماتريدية تنتشر في الأحناف والأشعرية في الشافعية، وبعض المتأثرين بالفلسفة
الأرسطية في المالكية كابن رشد.
تهميش الحنابلة تاريخيا أوجد مجالا للاغتراب عن
المنظومات الكلامية المتصارعة، وإن وجد تأثر فهو أقل من غيرهم، وكانوا أحيانا
كثيرة يقومون على من يتأثر منهم بها كابن عقيل الذي جالس المعتزلة فكان لهم موقف
شرس منه.
لقد كان موقف احمد من المعتزلة حاسما، وقد رد على الجهمية بأصول مختلفة عما شاع وساد في المنظومات الكلامية، الأمر الذي سيتبلور على يد حنبلي آخر (عثمان بن سعيد الدارمي) في كتابين.
لقد كان موقف احمد من المعتزلة حاسما، وقد رد على الجهمية بأصول مختلفة عما شاع وساد في المنظومات الكلامية، الأمر الذي سيتبلور على يد حنبلي آخر (عثمان بن سعيد الدارمي) في كتابين.
هذا الاغتراب عن المنظومات السائدة، والتهميش
الفقهي الذي امتد عبر عقود وكرره من المتأخرين (الكوثري)، يبين شيئا من الظروف
الموضوعية التي جعلت الحنابلة مهيئين لإفراز ثورة على الأصول الأرسطية التي توزعت
على المذاهب ولم يخل رجال من مذهبهم من التأثر بها كما سبق.
وهنا لما تصل الأمور إلى ابن تيمية نجد شيئا مختلفا
في التعامل مع المنظومات الكلامية، والمنظومة الأرسطية، فحالة الاغتراب والرفض
(السلمي / السلبي) للأصول الأرسطية أفرزت على يد ابن تيمية جبهة ضخمة قتالية ضد
الأرسطية عموما وما تفرع عنها.
كما أن منهجه في التعامل مع المخلفات الكلامية، لم يكن المنهج الرافض لجميعها فحسب! بل المنهج الذي يتابع تطورها التاريخي، ويستفيد من جهودها ويعرف المفاصل فيها، التي يضربها بنقد مركز، إنه يجعل الأمر متحركا، وكما ابتلع أرسطو المتكلمين، فابن تيمية كمنهج ابتلع المتكلمين هذه الفترة!
كما أن منهجه في التعامل مع المخلفات الكلامية، لم يكن المنهج الرافض لجميعها فحسب! بل المنهج الذي يتابع تطورها التاريخي، ويستفيد من جهودها ويعرف المفاصل فيها، التي يضربها بنقد مركز، إنه يجعل الأمر متحركا، وكما ابتلع أرسطو المتكلمين، فابن تيمية كمنهج ابتلع المتكلمين هذه الفترة!
إنه يعيد الحنابلة بمنهج ثوري مستدركا النقص لفترات
طويلة، بأصول مختلفة عن السائد!
كما أنه ينقذ التركة الفقهية عند المذاهب الأخرى ويسحبها من اختطاف أرسطو والمنظومات المتفرعة عنه وعن أفلاطون إلى حد كبير.
كما أنه ينقذ التركة الفقهية عند المذاهب الأخرى ويسحبها من اختطاف أرسطو والمنظومات المتفرعة عنه وعن أفلاطون إلى حد كبير.
6
في معارضة المنظومة الأرسطية والأفلاطونية، لم يكن
ابن تيمية يرسي قواعد منهج (غبي) ولم يكن منهجه مربتا على الأكتاف أيضا، بل كان
منهجا ذكيا متحركا مقاتلا في الجبهة النظرية، تجمعه نظرية معرفية متماسكة، تجمع
بين المواضيع المعرفية المتناثرة، والتي عرف هو كيف يلتزم بلوازمها إلى أبعد
الفروع الفقهية.
وفي رسالته (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)كمثال،
يظهر أثر ذلك الالتزام بالتماسك في نظريته..نظرته لترابط الوقائع ببعضها دون إقامة
حواجز بينها بهيام مع التجريد التأملي الأفلاطوني! الذي بقيت رواسبه حاضرة - وقد
تفطن لها ابن تيمية - في المنهج الأرسطي.
بل الواقع مترابط يتأثر ببعضه، ولا يمكن فصل الشيء
عن ارتباطه بغيره.. كان ثوريا ضد
المثالية التي أفادت السلطة طويلا باختراع الفصل بين الجوهر والأعراض! ومعرفة أن
ذلك مجرد لعبة ذهنية.
كان يبدأ من الجزئي من المعين، من الحسي، لا التجريد والكلي.
وهذا على الصعيد العلمي يتفق جدا مع نقد بيكون لأرسطو وما اصطلح عليه بـ (المدرسية) في أوربا.
كان يبدأ من الجزئي من المعين، من الحسي، لا التجريد والكلي.
وهذا على الصعيد العلمي يتفق جدا مع نقد بيكون لأرسطو وما اصطلح عليه بـ (المدرسية) في أوربا.
وعلى الصعيد السياسي سيرى الظلم كما هو دون تغليف
مثالي من النظريات المتنوعة! سيرى أن الاحتكار حرام ويجب التسعير للضرورة، فما هو
محرم لغيره يجوز عند الحاجة فكيف إن وجدت ضرورة!
ونظرته الواقعية تلك ستجعله يضرب مثالا يبين
انفتاحه على التأقلم مع الواقع، للتغيير بتقليل المفاسد قدر الإمكان، وهذا ينم عن
أسس مهمة في الوعي السياسي، وكل هذا مرتبط بنظرية معرفية واحدة.
مثاله كان قطاع طريق هاجموا قوما وطلبوا مالهم، إن
لم يعطوه قتلوهم، فيعطونهم من المال ما يردهم! كي لا يقتل الناس.
هذا يبين أنه لم يعش مع نظريات حالمة! ولا افتراضات وعظية! وهذه ثورية لوحدها في الفهم (ستبزغ المدرسة الواقعية في السياسة على يد ميكافيلي بعده بقرون).
هذا يبين أنه لم يعش مع نظريات حالمة! ولا افتراضات وعظية! وهذه ثورية لوحدها في الفهم (ستبزغ المدرسة الواقعية في السياسة على يد ميكافيلي بعده بقرون).
لم ينظر إلى ما هو مفترض في قطاع الطريق = حرمة
السرقة، حد الحرابة، التوبة، عدم الظلم! فهو يتحدث عما يكون لا ما يفترض أن يكون.
ينظر إليهم معينين، لا يعمل وفق الأخلاق المفترضة، إنما وفق ما هو موجود.
لم يقل للناس طالبوهم بتطبيق الشريعة! أو عظوهم حتى البكاء! بل تعامل بواقعية سياسية هنا تنظر للربح والخسارة المعينة، لم يطالب الناس أيضا بالبطولة الانتحارية!
ينظر إليهم معينين، لا يعمل وفق الأخلاق المفترضة، إنما وفق ما هو موجود.
لم يقل للناس طالبوهم بتطبيق الشريعة! أو عظوهم حتى البكاء! بل تعامل بواقعية سياسية هنا تنظر للربح والخسارة المعينة، لم يطالب الناس أيضا بالبطولة الانتحارية!
كذا في رسالته الأمر بالمعروف عندما يبين أنك (في
الواقع) إن رأيت أن أمرك بالمعروف عند قوم سيلزم منه مفسدة أكبر لا يؤمرون! في دحر
لهوس الشمولية الذي يجعلك تتحدث في كل شيء بعيدا عن ارتباطاته الواقعية! وهذا يبين
العته في خطابات متنوعة بعده بقرون أمرت أناسا بمعروف استلزم باطلا أكبر! لأنهم
نظروا فحسب إلى (كلمة الحق) مجردة عما تلزمه هي في الواقع في بقاء بقوقعة
(الميتافيزياء الكلاسيكية = أرسطو
وأفلاطون بلغة أخرى)، وليس هذا معرض حديث عنهم فليتأخر الحديث عنه لما بعد.
ابن تيمية كمنهج وضع أسسا مهمة تجاوزت عصره فيما
بعد، وكان التاريخ سيسير من عصر النهضة في أوربا متجاوزا أرسطو وأفلاطون بحد العلم
والمعرفة والإنجازات البشرية والتغيير السريع، الذي أسقط قلاعهما واحدة تلو
الأخرى.
يتبع إن شاء الله
يتبع إن شاء الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق