3.16.2017

مقالات مدونة الجزيرة: "في النقد"

*************مقالات مدونات الجزيرة*************

18 أكتوبر 2016

في النقد

1

يضرب تيري إيجلتون مثالًا طريفًا على الدوغمائيين اليساريين حين يقول: "إن سألناهم عن ثلاثة أخطاء وقع بها اليسار سيعجزون عن بيانها، وهذا سيكون كافيًا لبيان انغلاق هؤلاء فكريًا مع طول التجربة التي خاضوها، إنهم خاضوا تجربة لا يكفي في الحديث عنها بعض الشعارات الغامضة التي تستر وضوحية نظرتهم إلى الواقع المتغير، وللأخطاء المتراكمة الملازمة للعمل البشري".
مصطلح وضوحية تحدث عنه كارل بوبر، ومفاده تلك النظرة الساذجة التي تتجاوز تعقيد الواقع، بحجة أنه واضح، فيرى بوبر أن النظرة العلمية تقتضي كون اليقين الجامد يزداد كلما ابتعدنا عن الواقع، في حين كلما اقتربنا منه كلما استرعى ذلك نظرًا أبعد ما يكون عن الصيغ الجاهزة التي تختزل الواقع بحركته وتعقيداته بمصطلحات جامدة، كأنها قيلت مرة واحدة وإلى الأبد.
 
التعقيدات الواقعية وتغيراتها وما يستتبع ذلك من تفنيد للعديد من الكلمات العامة الجامدة، لا يعني هنا الوصول إلى حالة التشظي التي تدفع إلى اللامبالاة، والاستهتار والعدمية التي تجد الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا قد عبر عنها بجدارة وكأنه يدخل في صراع لمحاربة الثقة بعقل سوي، فارًّا إلى المشاعر فحسب، بحجة أن الواقع متشظٍ، إنما تعني على وجه أدق هنا كلمة سلافوي جيجيك وهو يقول تعليقًا على كلمة ماركس"لقد سعى الفلاسفة لفهم العالم ومهمتنا هي تغييره"، يعلق سلافوي"لعلنا تسرعنا في تغيير العالم، ويفترض بنا العودة إلى فهمه".

الحاجة إلى فهم العالم يقتضي دومًا المراجعة، والنقد، تلك الكلمة التي تعني التمييز، وقد يقصد بها اصطلاحًا بيان الخطأ والباطل، لتجاوزه، كانت الحاجة إلى فهم العالم بطريقة مختلفة عن تلك النظرة إليه أيام أرسطو تستدعي تغييرًا في الأسس الفلسفية التي أقام عليها منطقه، ومن هنا كان فرانسيس بيكون رائد النقد في أوروبا للمنطق الأرسطي في كتابه (الأورجانون الجديد)، كان النقص في رصد حركة الواقع كذلك هو ما دفع هيجل لرؤية العالم كوحدة مترابطة، بدل عملية التجزيء الكلاسيكي الذي يعجز عن رصد تلك الحركة الواقعية للأفكار والأحداث. ومن هنا كان منهج هيجل الجدلي في وجه المنهج الميتافيزيقي، والذي يعني هنا تحديدًا تلك النظرة التي تفصل الشيء عن حركته الواقعية وتجرده، وتتعامل معه لتحديد ماهيته وجوهره، مفترضة وجودها بقطع النظر عن أي شيء غيره.

إلا أن النقد ليس منفردًا في الساحة، بل يجابه بسيل من العبارات المحاربة له، والتي تخفي في باطنها مصالح تدافع عنها، فليس لازمًا لكون الشيء صحيحًا أن يتم الاعتراف به، فهذا قدر زائد عليه، ويتوقف على أمور كثيرة، ومن تلك العبارات ما تحاول أن تكون عقبة أمام النقد لنفيه تارة ولتحجيم دوره تارة، لحربه تارة وللمصالحة معه تارة أخرى. من تلك العبارات: تقسيم النقد إلى نقد بناء وآخر هدام. وهذه العبارة لو جردناها من سلطة الكلمات البراقة ستكون: هناك نقد مقبول وآخر مرفوض، بناء على نتيجة النقد فإن بنى فهو مقبول وإن هدم فهو مرفوض، وهذه نظرة براغماتية بالنظر إلى الكلمة بصيغتها المبتذلة، وإلا فكون الشيء صحيحًا لا يرتبط بهدمه ولا بنائه، و يلزم من المنصف قبوله بقطع النظر عن هذا، فكيف إن علمنا أن النقد بمعناه بيان الباطل بحد ذاته سيهدم الباطل.

ولعل من هذا أيضًا تقزيم النقد بحجة أنه لا ينبني عليه عمل. وهذه حتى على الصيغ البراغماتية قد لا يستقيم الأمر فيها تمامًا، فكون الشيء مرتبطًا بالعمل لا يلزم من هذا أن يكون العمل مباشرًا، بل قد يكون على الأمد الأبعد، فمثلًا الصعود إلى الفضاء تأخر عن معرفة القوانين التي مهدت له، فكونها صحيحة ولو نسبيًا في ذلك العصر، وكانت سترتبط بالعمل، ولكن بعد حين، ومن هنا يسلم جون ديوي وهو براغماتي أصيل بالعمل كقوة ولا يشترط له الفعل، أما جون ستيورات مل فيرى أن المنفعة قد تكون للأكثر ولو على الأمد الأبعد.
هناك مغالطة تسمى الاستدلال بالجهل، وصورتها إما أن تسلم بكلامي أو تأتي بخير منه، وهذا لا يلزم أبدًا للناقد.
  •  
ومن هنا أيضًا رفض النقد بناءً على الأسلوب. فكون الأسلوب مرفوضًا لا يجعل بالضرورة من معناه -لو حذفنا الأسلوب- باطلًا، والاستبشاع لا يلزم منه البطلان، كلايف بل يقول على سبيل المثال"لو رفضنا عمليات التشريح للتقزز من منظر الجثة الميتة، ولفظاعة تقطيع أجزائها بالمبضع، لكنا اليوم نعيش جهلًا بيلوجيًا مطبقًا"، ومن هنا فإن تقييم رد ابن تيمية مثلًا على ابن المطهر الحلي لوجود حدة في بعض العبارات، هو نظر للغلاف دون المحتوى، وهب أن أسلوبه لم يكن صحيحًا، فالخطأ في وضع كلمة حليب على إناء فيه سم لا يجعل منه سائغًا للشرب، وكذلك الخطأ في تسمية الحليب سمًا لا يبرر أن تسكبه ليذهب في الأرض! قصارى الأمر أن تعدل الأسلوب، وهذا يجرنا إلى مسألة تجزيء النقد.

فالنقد ليس كلًا لا يتجزأ، بل قد تنقد منه الأسلوب فهذا شيء، والمضمون شيء آخر، على أن تجزيء نظرتنا إلى النقد، لا يفترض أن يجعلنا نغفل عن المحتوى الكلي، أو حكمه كمجموع، فالجبل من ذرات، ولا يعني هذا أن كل ما تكون من ذرات سيشكل بالضرورة جبلًا، فالحكم الكلي مهم لفهم المنهج والقانون العام للأطروحة والنقد، وقد يتم نقد النقد فيتحول وقتها إلى أطروحة منتقدة وهكذا.

من محاولات التقزيم والعقبات: ما البديل لرفض النقد! هناك مغالطة تسمى الاستدلال بالجهل، وصورتها إما أن تسلم بكلامي أو تأتي بخير منه، وهذا لا يلزم أبدًا للناقد، فإبطال خرافة كالعنقاء مثلًا، ليس لازمًا له الانتقال إلى إثبات أنواع الديناصورات، كذا إبطال علاج زائف للإيدز لا يلزم منه إثبات العلاج له، على أن كل نقد يحمل في طياته كما يقول هايدجر تأسيسًا، فالنقد بإبطال الخرافة، يدفع نحو منهج علمي لإثبات الصحيح، كتمهيد وإيجاد لشروط رؤيتنا له.

2

محاولة تجاوز النقد، والحيل للالتفاف عليه كثيرة، ومن تلك الحيل ما تعرض له جوليان باجيني والذي تحدث عن "خديعة الحكمة"، والمقصود بها: تلك الأمثال التي يمكن الاستشهاد بها في التعليق على موضوع، والقدر هائل من الأمثال المتوفرة، والحِكم "المزعومة"، مما يكفي لتعطيل ملكة النقد، وجعل المرء يتعامل مع الواقع والفكر كآلات الصرافة البنكية، تضع فيه مدخلًا تعريفيًا فيخرج لك ما يوازيها من النقود.
إن فشِل قال "من لا يعمل لا يخطئ"، وإن نجح قال "من جد وصل"، إن وصل دون تعب قال "رُب رمية من غير رامٍ" وإن خسر من المرة الأولى قال "الخطأ يمهد للصواب"، وإن فشل في الثانية قال "الثالثة ثابتة"، وإن ترك المحاولة قال "إذا لم تستطع شيئًا فدعه" وهكذا.. وهذا كفيل بتحويل الإنسان من كائن مفكر، إلى كائن مستحضر لكل مسموع يخفف عنه شكواه، أو يبرر له أفعاله.
سلطة اللغة تلعب هنا دورها، فبقليل من الحيل اللفظية، يعطي مثلًا متعارفًا عليه وكأنه صيغ بدقة عالية عبر الزمن: الأمر الذي يدفع إلى الافتراض بأن حكمة كبرى وراءه، فإن كان مسجوعًا زاد ذلك من سلطة المثل، وكأنه حجة بحد ذاته، إن الإحالة إلى نص مكتوب أيًا كان ذلك النص، أو مثل متعارف عليه، أو بيت شعر، كفيل بإعطاء هالة حول الموضوع، وهو ما ينظر إليه الناقد نظرة ريبة وفحص.

كان ممن تنبه إلى سلطة النص المكتوب سعيد حوى، حيث ذكر أن قراءة لوائح من ورق مطبوع تعطي هيبة في نفس السامع للقوانين المذكورة، وهذا ما يفترض بالناقد أن يتنبه إليه، فسلطة النص -أي نص مكتوب- يفترض أن يتم تجاوزها في بحث صدق أو كذب المكتوب، وهو ما يفترض أن يمر على مذبح النقد قبل أن يتم هز الرأس له إيماءً بالموافقة عليه أو تمعر وجه لرفضه.
إن وجود سلطة أو هيبة أو هالة حول العبارات التي تواجه النقد، هي أقوى في الفاعلية والأثر من العبارات نفسها، التي لو تم تجريدها من تلك الهالة لكان نقدها أيسر على السامع، فسلطة الاحترام أو الرفض لشخص معين أو لسلوك معين، قد تعيق تمامًا عن رؤية كثير من العبارات الممانعة للنقد، على سبيل المثال، تلك الجملة التي شاعت فترة في بعض الأوساط الإسلامية "لا يفتي قاعد لمجاهد"، هنا نجد هيبة واحترام فعل الأخير، استعملت كمبرر لرفض فتيا القاعد أيًا كانت تلك الفتيا -صحيحة أوباطلة-، على أن هذه القاعدة ليست نصًا شرعيًا ولا قاعدة فقهية، ولا حكما فرعيًا مستنبطًا بقواعده، ونستطيع أن نقارنها بنص شرعي يقول "صدقك وهو كذوب" لمعارضة تلك السلطة المستعملة كعقبة أمام النقد، أو تلك العبارة المتكررة من كثير من العلمانيين "هذا تردي إلى السلطة الدينية - الثيوقراطية" لرفض أي نقد ولو كان صحيحًا كطلب إطفاء سيجارة منه في مكان عام.

الهيبة أو السلطة تتحرك بأشكال مختلفة بين الذات والموضوع، عبر التاريخ، والأعراف، والإيماءات لتشكل نظامًا يفرض نمطًا معينًا من الرؤية، بحيث تحجب بقليل أو كثير لرؤية الأمور كما هي عليه، واحدة من تلك السلطات هي السلطة الأبوية التي تعرض لها بالنقد جون لوك في كتابه المدنية، فإسقاط كثير من مفاهيمنا عن الأب في الأسرة على الصعيد السياسي، يمنع من الالتفات إلى السلطة السياسية بطريقة مختلفة عن رؤيتها كسلطة طبيعية أو جبرية كما هي في حال الأب مع ابنه، فالابن لا يختار أباه، يولد ووالده موجود، وبلوغ الأب وقصور الابن كفيل بجعل الأخير تابعًا لتربية وسلطة الأب.
إلى أي درجة كانت هذه السلطة مستثمرة في كثير من النواحي الروحية والسياسية والاجتماعية.. الخ؟ فكثيرًا ما يبدأ القساوسة حديثهم باسم الأب، وهذا يحاكي أو يغازل مخيلة السامع بداية عن سلطة أبيه عليه، أو خطاب زعيم لأبنائه، أو حتى بعض الإسقاطات على بعض المرجعيات الدينية (سماحة الوالد فلان حفظه الله) علمًا أن كل هذه الأمثلة لا يتوفر فيها ما هو موجود في حال الأسرة، وسلطة الأب فيها، فضلًا عن طبيعة الأب واختياراته لابنه باعتباره امتدادًا له، فإن سلطته محكوم عليها بالانتهاء والانتقال بشكل طبيعي إلى أبنائه، بخلاف الأمثلة السابقة التي لا يشترط أن تنتقل أي سلطة فيها إلى من وصفوا بالأبناء.

سلطة الأب، تسمى منازعتها عقوقًا، وبالتالي سيُنظر إلى أي نقد على الصعيد الروحي، أو السياسي بوصفه خروجًا أو هرطقة لمحض المخالفة بقطع النظر عن صوابها أو بطلانها، على هذا الصعيد كان نقد باولوفريري لسلطة المعلم بطريقته الكلاسيكية، بحيث يقتل أي تفاعل بينه وبين الطالب، وهذا ما يؤدي إلى آلات الحفظ الصماء، التي تفرغ حمولتها على أسطر الامتحانات، وكأنها تستقيء طعامًا زائدًا لا أن تلك المعارف هضمت ثم أنتجت طاقة لعمل ذهني، وهذا لا يتم دون تفاعل نقدي بين المعلم والطالب، فليست وظيفة المعلم تعزيز هالة أبوية في ذهن الطالب، بحيث ينتج ببغاء يردد مقولات المعلم، إن الطريقة التلقينية في التعليم، تمسخ ملكة النقد عند الطالب، وتعزز قابلية التلقي والترديد، مما ينعكس على طريقته في الحياة فيما بعد، ومن هنا كثيرًا ما كانت طبقة النخبة المثقفة "الإنتلجنسيا" مدجنة وتبريرية للسلطة، بحيث تتغير أطروحاتها بتغير السلطة، فهي متأثرة لا مؤثرة، مبررة لا نقدية.
إن الطريقة التي تعرضوا لها عبر مراحلهم التعليمية، كانت طويلة بحيث وزعت أجزاؤها الإكراهية عليهم عبر سنوات الدراسة، بحيث لا يفطنون إلى مجموعها وأثره على نفسيتهم فضلًا عن الأثر على قدراتهم المعرفية، كما أن ارتباط حيازة المرتبة العلمية المعترف بها بالوفاق الكبير مع المعلم أو المحاضر أوالدكتور المشرف، بحيث ترتبط شرطيًا مخالفته بتقليل فرص النجاح أو التفوق، مما يجعل من النقد مرتبطًا في أذهانهم بالفشل، وضياع المستقبل العلمي والمهني.

هذا ما سينعكس على العملية التعليمية الراجعة ممن تعلم بتلك الطريقة على الطلاب، إذ سيرى أن من العادل أن يخوض الطلاب كل ذلك الإكراه الذي مورس عليه قبل أن يصلوا بعده إلى المرحلة التي وصل إليها المعلم، ومن هنا يصنع هذا النمط من التعليم جيلًا محافظًا، يخشى المخالفة والنقد، ويرى أشباح العقوبات المعنوية والمادية تطارده كلما ذكر أمامه هذا الاسم "النقد".

3

كان "شوبنهاور" لا يعوّل على التجديد عبر الجامعات، بل كان يرى أن التجديد الحقيقي يبدأ خارج أسوارها، ويشرح "نيتشه" هذا في كتابه "شوبنهاور مربيًا" بقوله "إن الطلاب يخشون فيها من يدرّسهم، ومن يدرّسهم يخشى الرأي العام!"، إن هذا يصنع حالة جامدة من التعليم، فالطالب يخشى أن يخالف من فوقه، وتضحى سلطة المعلم سلطة أبوية، تعكس ما لا يخالف المجتمع لكون المعلم يحرص على عدم مخالفة السائد.
 
سلطة المعلم التلقينية تلك التي تخبو أمامها ملكة النقد عند الطالب، تذكر بسيطرة أرسطو قرونًا على حقول الفكر ومعرفة الطبيعة والسياسة لمدة ألفي سنة، لقد كانوا ينظرون إليه بما عبر عنه اللقب الذي أطلقوه عليه "المعلم الأول"، لقد كان هو المعلم، وكانوا هم الطلاب وعكَس موقفهم تلك الطريقة الكلاسيكية في تعامل الطالب مع معلمه!، فقد كان العقل في القرون الوسطى مرادفًا إلى درجة كبرى لأرسطو، وكانت وظيفة الدائرين في فلكه أن يشرحوا عباراته، ومن يخالفه فهو مجنون، أو ذو حكمة مموهة "سفسطائي".
ومع ترسخ سلطته في الوعي الجمعي، صارت مخالفته مخالفة للسائد، وهناك افتراض أولي عند كثيرين أن الأكثرية تضمن مجالًا أكبر للصواب، وبالتالي فهي أفضل من عقل فرد، في حين أن هذا ليس دقيقًا بما يكفي! فكثيرًا ما يندفع الناس إلى محاكاة السائد، بدافع التقليد، دون أن يكون لهم أي فهم حقيقي للرأي الذي يقلدونه، ولما بدأ فرانسيس بيكون بنقد الفكر الأرسطي السائد قال "ما أجدرنا أن نستعير قول فوشيون من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر، إذا ما غمرك الدهماء بالتأييد والإعجاب فتحسس أخطاءَك".
 
ففي المجال المعرفي تكون كارثة تلك المداهنة لأمزجة الناس لتلقي الإعجاب، فيعطل دوره في كشف الحقائق بقطع النظر عن مخالفتها للأمزجة، فأين هو وقتها وصف المثقف وهو لا يقوّم اعوجاجًا، أو يصحح فكرة عندهم؟ يضحي كالمطرب يغني حسب ما يريده الجمهور، لا يصنع فيهم أفكارًا بقدر كونه يحرك ما يوجد فيهم.
ومن هنا يضحي خطاب هذا المثقف مرتعًا للمغالطات التي يفترض نقدها دومًا لإظهار الحقيقة، فمن التلفيق المنهجي، إلى المغالطات الصريحة في إقامة الحجج، وعلى سبيل المثال مغالطة "التجربة الذاتية"، وهي منتشرة جدًا من قمع الابن والطالب.. إلى محاكاة السائد في الخطابات السياسية.
 
وصورة هذه الحجة أن يقول "لم أجرب هذا الشيء لأعرفه"، فالتجربة وسيلة للمعرفة هذا صحيح، ولكنها ليست هي الوسيلة الوحيدة لها، فيتقزم دوره في الشأن العام حينها إلى تخصصه الأكاديمي، ومهما حصل أي شيء خارج تخصصه فهو لا يعنيه، ويذكر "إدوارد سعيد" مثالًا على هذه الحجة في كتابه "صور المثقف"، فيذكر أن "نعوم تشومسكي" كان معارضًا لحرب فيتنام، فرد عليه خصومه بأنه ليس متخصصًا بالسياسة، في حين أن من أقام حجة سليمة لا يشترط أن يكون حاملًا للقب فيها أو ممارسًا للعمل السياسي إن كانت في السياسة، فهذا شرط زائد على الحجة بذاتها.
 
حجة التجربة الذاتية منتشرة، ففي رفض النقد يقول بعضهم "أهل مكة أدرى بشعابها" لإسكات أي ناقد للأمر من خارج البلد أو الحزب، ويقال "كلامه صحيح" ولكن ليست معرفة مكة حكرًا على أهل مكة!، فزيادة علم في المرتبة لا تنفي وجود علم أدنى منه بدرجة مع بقاء صحة وصفه بالعلم، فليس المخبَر كالمعاين ولكن الخبر الصحيح حجة في المعرفة، ولو طردنا موضوع التجربة الذاتية هذا إلى آخر نتائجه المنطقية لن يبقى إلا "أنا الوحيدة" بمعنى ينفي المحتج أي شيء غير ما جربه هو وأدركه هو، وهي آخر نتائج هذه الفكرة، فالمرء لا يكون واعيًا مثلًا بحمل أمه به، ولا بمخاض الولادة ولا يعني هذا بحال أنه لم يولد من أم كونه لم يكن مدركًا لتلك التجربة أصلًا، بل أخبروه عنها وشاهد نظيرها في غيره وقاس ما غاب على ما شهد، فهل يمكنه أن يقول "لم أولد من أم كوني لم أجرب هذا؟!
 
أحد الظرفاء عبر عن هذه المغالطة بقوله "لا يمكنني معرفة صدق آلام المخاض لأنني رجل، ولم أدخل هذا ولن أدخله في كل حياتي، وبالتالي لعله غير صحيح!"
 
كانت حجة التجربة الذاتية تتكرر مرارًا تنقض لتبرر رفض النقد، فرجل ينتقد طريقة إدارية معينة، يقال له "أنت لم يسبق لك أن كنت مديرًا"، طالب ينتقد معلمه، يرد عليه الأخير "من المعلّم فينا؟!" وقد تكون حجة الطالب هي الصحيحة، هنا يضحي لقب "معلم" ليس مرتبطًا بالعلم والمعرفة التي تدور حول الأدلة، بل لقب سلطوي كألقاب الرتب العسكرية.
 
رجل ينتقد سلوك متزوج يقال له "أنت أعزب، لا تعرف معنى الزواج" بل من الطرائف أن أحدهم قال يومًا "لن آخذ بفتاوى ابن تيمية في الزواج كونه لم يتزوج"، سألته "إذن لن تأخذ فتاوى الطلاق من المتزوج حتى يطلق!؟ وأخيرًا لن تسمع أي شيء عن الموت إلا من الأموات أنفسهم!".
ومثقف يسطو على جهد غيره على سبيل المثال، فينسب كلام غيره إلى نفسه، فيقال في الاعتذار عنه "إنها أول مرة يكتب فيها كتابًا، أو أول مرة يكتب كتابًا كبيرًا! فهل المؤلف لأول مرة على سبيل المثال يمكن أن يبرر له أي سرقة بحجة أنه لم يجرب الكتابة من قبل؟!، هل سلوكه للمنهج السليم في الكتابة مرهون بدخوله التجربة الذاتية بكتابة مؤلَّف ويكون سارقًا فيه؟ 

رجل ينتقد كاتبًا فيقال له "أنت لم تكتب مثله كتابًا" أو حجة تقول لا يمكن استلام السلطة ممن لم يجربها من قبل، وكأن من في السلطة ولد أزلًا فيها، نستطيع أن نتصور القياصرة وهم يقولون لأنفسهم "لا يمكن لغيرنا أن يقود البلاد، فهم لم يجربوا الأمر من قبل".
 

لا يشترط لفهم معنى النهيق أن يجربه أي إنسان بنفسه!، ومهما بدت هذه واضحة إلى درجة التندر بمن يخالفها، فإنها نفسها تتكرر في كثير من الخطابات بصور أعقد، حتى في النظريات المادية في المعرفة بل حتى في أقدمها كنظرية "التشارفاكية" في الهند، لا يشترط لصحة المعرفة التجربة الذاتية، بل يكفي الخبر الصحيح عن تجربة، ومن هنا يتراكم العلم، ويبني اللاحق على جهد السابق.

عدم الاهتمام بالنقاشات الدينية والفكرية

 

12 مارس 2017

عدم الاهتمام بالنقاشات الدينية والفكرية

1

كثير من الناس يجدون في أنفسهم عدم الحاجة لتتبع النقاشات والخلافات على صعيد القضايا الشرعية أو الفكرية، ويقولون ما لنا ولهذا؟ بعضهم يعزو قلة اهتمامه بهذا للغالب على ما يجده في مثل هذه النقاشات من احتداد من الجميع، والاتهامات المتبادلة، فكأن القضية مجرد وجع رأس دون حاجة، لماذا أهتم بمثل هذه القضايا أصلًا؟ 
 
هناك من يزهد من شأن هذه الخلافات بقوله: هذه مسائل احتد فيها الناس من قديم، ونضجت حتى احترقت، ولا فائدة منها، ولا يمكن حسمها أصلًا، وهكذا..
وهذه محاولة للإجابة عن هذا السؤال، لماذا نهتم بهذا؟ 
 
بداية، الفكر والدين يتغلل حياتك وعاداتك وسلوكك، سواء أذنت له أم لا، فالفكر لا يستأذن أحدًا، كذلك الاعتقادات التي توصف بالدينية بالمعنى العام، فأنت تفكر بطريقة معينة، ولك نظام أخلاقي معين تحتكم إليه، دون شعور أحيانًا، سواء فكرت في التفكير (وهنا تبحث بطريقة فلسفية)، أو لم تفعل، وسواء بحثت في الشرعيات أو لم تفعل، فأنت تتصرف بطريقة دينية وفكرية معينة وإن لم تكن واعيًا بهذا.
خذ كمثال على هذا هذه الحادثة:
 
كان " كبار السائحين من كبار السن الوافدون من اليابان والهند يزورون قبر ماركس، كما أن الشيوعيين الإيرانيين والعراقيين يصرون على أن يدفنوا في ظله."
(كيفية تغيير العالم: حكايات عن ماركس والماركسية، إيريك هوبزباوم، ترجمة: حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1: 2015، ص 38.)
لاحظ اليابان والهند لهم احترام كبير للأموات، ولاحظ عقلية الشيوعيين الايرانيين والعراقيين وقارنها بالمخيلة المذهبية والدينية في موضوع مقامات الصالحين والتبرك بالدفن بجانبهم كيف تنتقل إلى قوم يفترض أنهم على الأقل ليسوا بذلك التدين المذهبي.
 
فحتى وإن لم يفكروا بأنهم يتعاملون بطريقة دينية إلا أن هذا السلوك له جذوره في كافة الخطابات التي نشأوا في حاضنتها، وله أسسه الدينية..
 
الأمثلة على هذا كثير، فالاهتمام بهذه القضايا ليس خيارًا تحسينيًا بل هو ضروري لوجودك كإنسان بوصفك كائنًا اجتماعيًا تتأثر بالمجتمع وما يطرح فيه، وما يستدعي ذلك من تقليد ومحاكاة، دون وعي أحيانًا لقضايا لم تعرها اهتمامك، ومن أخصها المسائل الدينية والفكرية..
 
أما على صعيد الاحتداد، فهذا ليس مسوغًا لعدم البحث في هذا وأمثاله، وليس علامة رئيسية كما يجعلها برتراند راسل على ضعف أدلتها، بل هي علامة على كونها عميقة في الإنسان لدرجة تهدد هويته، فهذا الإنسان الذي نشأ بوذيًا مثلًا عندما يحاور آخر لا يحاوره كمسألة: (ما حاصل ضرب كذا بكذا )، لا يحاوره كأمر منفصل عنه، بل يحاوره وهو يضع تصوره ومشاعره عن نفسه وعن مجتمع ككل على المحك النقدي!، وبهذا يكون الاحتداد علامة على عمق المسألة المطروحة، فمتى ظهر بطلان معتقده، واقتنع بذا، سيتهافت فيه إنسان كامل، لينشأ بدلًا منه آخر مؤمن بدين وتصورٍ آخر عن الحياة والوجود، ويتحاكم إلى منظومة أخلاق مختلفة.
 
إنه تغيير في التصور والنفسية، تغيير في الرؤية والولاء، وبالتالي شيء متوقع أن يوجد الاحتداد في أعمق المسائل التي يحدد الإنسان بها نفسه، كيف ينظر إلى نفسه، وإلى موقعه وعلاقتها بالوجود المحيط به، وهذا لا يصلح كدليل على تضعيف الاهتمام بهذه القضايا، بل على العكس تمامًا يظهر إلى أي درجة هي ملحّة.

2

إن جانبًا من حجج من يزهّد في البحوث الدينية والفكرية، قائم على مجازفة تطالب بجعلها متفقًا عليها كمسائل تجريبية، فإن هذه القضايا لم تحسم البتة وهي مسائل خلافية من قديم، وهذا يقال فيه بأن الاتفاق او الخلاف أمر زائد عن وجود أدلة على شيء، أو عدم وجود أدلة عليه، ولكن لماذا يحصل الاتفاق بين جميع الناس على قضايا مثل جدول الضرب؟ 
 
يقال: لكونه مرتبطًا بشكل كبير بالمنافع المحصّلة منه في التجارة ونحوها، والناس تتفق على مصالحها، ولو قدّر أن فائدته العملية غير ملموسة لأمكن حدوث خلاف فيه مثله مثل غيره من المسائل التجريبية التي قد تخالف اعتقدًا بأسطورةٍ لقوم، أو مصلحة لآخرين، وإن الذي دفع الناس إلى جانب الارتباط بالعلم التجريبي بشكله الكبير هو ارتباط الربح به، وتعلقه بقوة الدولة، وبالتالي بتوزيع الوظائف عليهم، ومنحه لرأس المال قوة لا يستهان بها، وإلا فقد كان ينظر كثير من الناس بعين التوجس إلى منجزات العلم متى خالفت مصالحهم، مثل نظر النسّاخ إلى آلة الطباعة، وهي تعفيهم من وظائفهم وترمي بهم إلى خارج عملهم لتحل الآلة محلّهم، وأصحاب المهن الحرفية إلى المصانع التي تحطّم أعمالهم، فالاتفاق عليها ليس لكونها تجريبية وغيرها مسائل عقلية، بل لكونها مرتبطة بالمنفعة المتحصلة منها للناس.
 
ولذا تجد اتفاقهم على أفكار نظرية ليست تجريبية متى ما وافقت مصالحهم، ومن هنا تجد الرأسماليين يتفقون جميعًا على مصطلح (حرية) لما كان يخدم حريتهم في التملك والتنقل والتسويق، وذلك للمنفعة المتحصلة لهم، بقطع النظر عن كون مصطلح (حرية) تجريدي يندرج تحت مباحث الميتافيزيقا.
 
فوجود الاتفاق والاختلاف ليس هو المفرق بين القضايا النظرية والحسية، بل قد يوجد هذا وذاك، وكما تقع المكابرة في النظريات تقع في الحسيات.
 
إن بعضهم يحاول التزهيد فيها بحجة أن إثارتها قد يبعث على الطائفية والأدلجة، وبالتالي يدفع إلى الاحتراب بالباطل، والمغالبة والمصاولة بغيًا وعدوانًا، وهذا في الواقع قلب للمسألة رأسًا على عقب، وليس العكس، ولنأخذ مثالًا على هذا، أول ما حصلت الثورة الإيرانية 1979، حصلت خلافات كبيرة في الساحة السنيّة، من هم هؤلاء الشيعة وما الموقف منهم؟ وكان من الناس من يحذر من معتقداتهم، وآخرون يقولون بل يجوز التعبد بها، وآخرون يدعون لتأجيل النقاش، وكان كثير من الناس لا شأن له بهذه الخلافات أصلًا، وبحقٍ بعد عدة عقود بدأت الأزمة تنبعث على أرض الواقع، وتأجيل البحث في تلك المسائل من وقت مبكر بطريقة جدية لدراسات جدية لهم، كان يدفع للمواقف الارتجالية بنت ساعة ظرفها!، وبالتالي ما إن تحصل بعض المشاكل الطائفية حتى تعم من (لم يهتم بتاتًا بتلك القضايا) ويصبح الأمر فيها على الاسم والهوية، وذلك الذي لم يفكر يومًا بها، سيسعى لتحديد موقفه في الموضوع، وهذا يدفع في الاحتمالات لقرارات ارتجالية قد تدفع بالتطرف إلى أقصى حد، كما هي طبيعة الارتجالية العاطفية، لا النتائج المبنية على دارسة ورويّة وتفكير.
 
وأمثلة هذا كثيرة وليست حكرًا على هذا الموضوع، وكمثال آخر، قسم ممن لم يهتم أبدًا بالقضايا الفكرية والدينية، ممن يعيش في الغرب مثلًا ثم يجد نفسه صار عرضة لتمييز عنصري، أو انتقاصٍ ديني، مما قد يدفعه لموقف ارتجالي غير منضبط فقهيًا ولا روية فيه فكرًا، إن تجاهل هذه القضايا يجعل المرء مستعدًا لأي حلٍ يقدم له، دون أرضية يزن بها القضايا.
 
إن الاهتمام بذا هو اهتمام ضروري للإنسان من حيث كونه إنسانًا، فضلًا عن الثغرات التي قد تنشأ عن إهماله فتصل إلى فوضى وأذية له في حياته في الواقع.
وأختم بكلمة للكوثري:
" تلك الكلمة ”أنا مالي” على وجازتها هي علة العلل في طروء الخلل في كل زمن. "

( مقالات الكوثري، محمد زاهد الكوثري، المكتبة التوقيفية، اشراف توفيق شعلان، ص 448. )

عن كتاب (التعقب المفيد على هدي الزرعي الشديد)، محمد العربي بن التباني

 

10 مارس 2017

عن كتاب (التعقب المفيد على هدي الزرعي الشديد)، محمد العربي بن التباني

1

هذا الكتاب رد فيه مؤلفه على ابن القيم بعبارات جافية، وفيه لمز وطعن بابن تيمية، وهو تعقّب لزاد المعاد – لا علينا – مما لفتني قوله في رده على ابن القيم في حكمه على بعض الأفعال بالبدعة:
" الحكم بالبدعة... من مسائل الفروع جهل، لأن البدعة إنما تكون في الأصول أي العقائد "!!
 (التعقب المفيد على هدي الزرعي الشديد، محمد العربي بن التباني، تقديم: عبد الواحد مصطفى، دار المصطفى، ص 12.)
 يعني لا يوجد أي بدعة إلا في العقائد!، فإن زاد ركعة؟ أو نقص ركعة، أو اختار صلاة وتحرى موضعًا لطواف كل هذا لا بدعة فيه! وكلام الأئمة من قديم عن بعض الأفعال بأنها بدعة، يحكم عليه بالجهل، فأي رجل هذا!؟

2

يرد التباني على قصة ذكرها ابن القيم ومفادها أن اليهود زوروا كتابًا ونسبوه إلى الرسول صلى الله عليه واله وسلم، فبصق عليه ابن تيمية وبين كذبه من وجوده، فعلّق التباني:
 "
الحروف محترمة شرعًا والبصاق مستقذر باتفاق الناس... هل يباح أيها العقلاء البصاق عليه؟ وإذا كان فيه اسم من أسماء الله تعالى فهل يكون البصاق عليه؟ في هذه الحالة ردة "!
 (
التعقب المفيد على هدي الزرعي الشديد، محمد العربي بن التباني، تقديم: عبد الواحد مصطفى، دار المصطفى، ص 48.)
فهذا يظهر تحاملًا كبيرًا، فالحروف بذاتها ليست محترمة شرعًا، فقد تكون كفرًا وفحشًا، وخديعة وتلبيسًا.
 
فمن أين جاء باحترام الشرع للحروف بهذا التعميم؟ هل يحترم الشرع شتم النبي مثلًا إن تمت كتابته ويحرم التلفظ به فحسب!
 
أما اسم الله، فالكلام لا يكون حتى يركب ويفيد معنى! فلا يقال فيها اسم الله، فمن شتم الله في جملة مثلًا، هل يقال هذه الجملة فيها اسم الله!.
 
وفي القرآن:(وقالت اليهود يد الله مغلولة) ثم رد عليهم (غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا) فلعنهم بما قالوا مع أنهم تلفظوا بـ الله! فهل يقال لعن لفظ الجلالة؟!
 
فالرجل متحامل، يريد أي شيء ليطير إلى التكفير..

3

" البحاثة إذا طالع منهاج سنة ابن تيمية يمكنه أن يستخرج منه مجلدًا في الطعن في خلافة حيدرة كرم الله وجهه وفي مناقبه وفي مناقب آل البيت "
(التعقب المفيد على هدي الزرعي الشديد، محمد العربي بن التباني، تقديم: عبد الواحد مصطفى، دار المصطفى، ص 50.)
طالعه السبكي فقال في وصف رد ابن تيمية على ابن المطهر:
ولابن تيمية ردُّ عليـه وفـى *** بمقصد الردّ واستيفاءِ أضْرُبِهِ
ولم ينقده في هذه المسألة البتة، ولكن التباني يقول بأن هناك مجلدًا فيه طعن بعلي لم يدركه السبكي مع جودة ذهن السبكي، والخصومة الكبيرة بينه وبين ابن تيمية، وكثرة الردود المتبادلة!
مجلد! فها هو السبكي يمدح رد ابن تيمية ولم يعب عليه ما راه التباني، فهل كان السبكي ناصبيا ايضا!

4

" الأشعرية والماتريدية والمعتزلة الذين الأمة الإسلامية جمعاء ممثلة فيهم "
(التعقب المفيد على هدي الزرعي الشديد، محمد العربي بن التباني، تقديم: عبد الواحد مصطفى، دار المصطفى، ص 51.)

الأمة جمعاء في هؤلاء!

بئست السنة!

 

1 فبراير 2017

بئست السنة!

1

أول ما بدأت نقدي للكانطية الجدد بالنسخة المضروبة، وأنا أحاورهم بالحسنى، أعتذر عنهم بأمر قد قلدوا فيه الصدر في كتابه (فلسفتنا)، وأقول هي مباحث لم يدركوا ما وراءها، فإذا بهم يعقدون ولاءهم وبراءهم على عروة جهلهم، حتى وصلني اليوم لمز بعضهم لي بالمدخلية تارة، والجامية تارة أخرى!
 
وصرح قائل منهم قبلها بأني خالفت جمهور أهل السنة!، فكأنه أضحى عندهم في المعتقد من الضروريات، القول بوجود المعارف القبليات.
فجاميكم ومدخليكم فرع عن قوقعاتكم التي تقسم العالمين، لأقوال قيلت في شارع في الرياض وآخر في القصيم!، ثم ما هي مقالات المدخلي والجامي أصلا! حتى يضحي فرقة وينسب إليها أناس ما قرأوا لهم إلا تندرا بمنتجاتكم، وفلاسفتكم!.
 
بعضهم يقول إني تعجلت في نقدي لهم، وآخر يقول لم أهضم أفكارهم، فيا لخيبة الفلسفة والفكر معكم، أحسبتم أصلا أن ما تكتبونه فلسفة؟! أم بحق في نظرية المعرفة؟ 
 
إنما يطالعه القارئ من غير صنفكم مطالعة الصحف والمجلات، وما تجود به قرائحكم يكون فيها مسليات كالإعلانات.
 
فإن كنتم تصرون على المقارنة، فلتكن المقارنة بشيء أقرب، بمقالة جهم بن صفوان، في الذي نقله عنه أحمد في الرد على الجهمية، فقد كان جهم على ما فيه متسقا مع نفسه فلما أثبت إلها لا يمكن رؤيته وليس له كلام إلا مخلوقا، لم يقدر على ذا إلا بإثبات روح لا يقع عليها الحس وهي موجودة، فما صنعتم إلا أن بدلتم فقط العبارات فقلتم معارف بدل الروح لا تقبل الحس ومع ذلك فهي موجودة، أهذه مقالة السنة؟!
 
ثم يصدع الواحد منكم رؤوس الناس بالإنكار على الأشعرية، ويتندر بمقالاتهم بأنهم خالفوا ظواهر النصوص في الصفات، فإذا جئتم إلى القبليات صادمتم قوله تعالى (أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) وشيء نكرة في سياق نفي فتعم كل علم.
 
فماذا صنعتم؟ ما فعله محمد باقر الصدر فحسب! تابعتم أرسطو بتقسيم الموجودات إلى قوة وفعل، فقلتم إن القبليات موجودة بالقوة لا الفعل!.
فما صنعتم شيئا بذا، فإن كانت القوة موجودة ناقضتم ظاهر الآية وإن كانت معدومة فهو نفي للقبليات!.
 
لكنها المماحكة بغير علم ولا بينة، قالوا لكن انظر هنا نعيب على من قال بان الله لا يمكن رؤيته كجهم، وهناك قلنا المعرفة تابعة للوجود، فيقال: هل تخيلتم للحظة أن أحدا عاملكم معاملة المتسقين مع أنفسهم، فأنتم كل مرة تغزلون ثم تأتون بما ينقض الغزل، فتجميع أقوال لا جامع لها هو دأب عقل تنظيمه كغرف محجوزة عن بعضها، فما في واحدة لا يصل إلى الأخرى.
 
فبعض يوافق جهما، وآخر الأشعري، وآخر ابن تيمية والمنظومة بعد جهد على خطى الصدر!، ثم من خالفكم قلتم مدخلي تارة وجامي أخرى..

2

فمن أثبت القبليات كان ذا لحاجة عنده ﻷثبات إله لا يصح أن يقع عليه الحس، فأفلاطون لما جعل الحقائق وهي المثل عنده لا يقع عليها الحس، وصار الوجود المحسوس مجرد خداع، أنشأ معرفته على أساس التذكر بأن كل إنسان يتذكر المعرفة تذكرا وهذا أساس من قال بالقبليات.
 
ثم لما جاء أرسطو وسمح في منظومته الفلسفية لإثبات العالم المحسوس جعل من المعارف ما أصله الحس، لكنه لما أبقى شيئا من فلسفة أفلاطون، وكان يقول بالأول المجرد الذي لا يتحرك سمح ببعض القبليات التي سماها بالبديهيات ليصل بها إلى ذلك الشيء غير المحسوس.
ولما جاء كانط وأراد إنقاذ الثالوث قام بتقزيم دور العقل، فقال بالقبليات التي تتفعل بعد الالتقاء بالحس.
 
ولما كان الله عنده لا يقبل الحس اذن لن يصل اليه دليل اصله حسي، ولما ناقش الادلة الثلاثة التي اعتمدتها الكنيسة وفيها يمكن الاعتماد على القبليات ونفاها لم يجد ما يثبت به الله، حتى قال بوجود دليل رابع يعتمد على الأخلاق وهو هروب إلى غير ملجأ.
 
وبالجملة لا تكاد تجد فيلسوفا متسقا اثبت القبليات الا للتوسط بها الى الاله غير المحسوس ذاك، كديكارت على سبيل المثال.
ولما قال الصدر بالقبليات ما كان ذا الا ليتوسل بها الى الاله الذي لا يمكن ان يحس.
فهو عنده كمعتقد الامامية المتأخرين مثل معتقد المعتزلة لا يمكن رؤيته.
 
ثم جاء هؤلاء وقلدوا عن غير بينة ولا برهان، ولن يتفاجأ القارئ لهم إن قرروا الرؤية وفي نفس الوقت القبليات فدأبهم التلفيق.
 
وما كتبت هذا مخاطبة لجهولهم ولا مغرورهم، إنما لينظر فيه العاقل المنصف، ويرى أي جهل مركب نفخ في أوداجهم حتى يلمزوا من خالفهم بكل شتيمة حفظوها لكثرة ما قيلت لهم، أو لعلها في رؤسهم من القبليات.
 
بقي الحديث عن المؤلفات، الشيخ فلان عنده مؤلفات، فلو كان التأليف بعدد الأوراق لوضع ما لف من أوراق الحمامات في أدراج المكتبات، ولو كان بالحروف لصار كل مهذار رائد الفكر والمعرفة، ولو كانت باللقب الجامعي، لصار من حصله بأي طريق عالما!
 
والطريف أنك تجد منهم من يقول العبرة بالدليل لا الأقاويل، لما يكون القائل الشافعي أو مالك!، أما فيما يتعلق بشهادته وشهادة أبيه فمالك تخالف فلانا ومعه اللقب الفلاني؟ ومن أعطاه اللقب تجدهم ثلاثة أنفار ينكسر الميزان إن قارنتهم بجلسة من الشافعي!.
 
تجاريهم فتقول ما تخصصهم، فيقول معه لقب رفيع في العقيدة، حسن ونحن نتكلم في الفلسفة! أم أضحى معكم الاثنان واحدا فأضيفوا ثالثا ليكتمل الثالوث، فاطبعوا له شهادتين واحدة في هذه وأخرى في تلك، وحبذا أن تجيزوه بأخرى للكلام في كل ما لا يعرفه من باب المكافأة.

3

فمن ينصر الشرع بلا طريقة يضر من حيث لا يفهم منبع الفساد أكبر مما ينفع، فتجد أحدهم يقرر أن الله ليس محسوسا فيستدل عليه بحس ولا مثيل له فيعرف بالقياس!، لا يرد على هذا بأنه قال في نفس الكتاب بأن الله يعرف بالعقل، فنحن هنا أمام هذيان، يقرر شيئا ينفيه مرة أخرى!.
 
وآخر يقرر بأن كلام ابن تيمية جوهر نظرية كانط!، ولما نسبته إليه أنكر ذا وكذبه وصاح بالتظلم، حتى عاجلته قديما بموضعه في كتابه، فلم تسمع له حسا لأشهر بعدها!، وآخر يقول في صفحة واحدة إن ابن سينا والفارابي مثاليان، وفجأة لو اعترف الناس بالله الخالق ينتهي النزاع المادي المثالي!.
 
فهؤلاء لو كانوا أشاعرة - أولئك الذين يصرخون في المجامع بمخالفتهم - لكانوا أفضل بمراحل من هذا الهذيان الذي يسطرونه، فإن مطالعه من أهل الملة يتندر بهذا السقط، فكيف لو طالعه أقوام من غير أهل الإسلام؟!
 
ولقد كانت سفاهة الأحلام من صفات من ذكر حالهم في الأخبار، وإنك لتجد السفاهة حاضرة في ردود من قال:
بأن من نفى القبليات نفى الضروريات وبالتالي وافق الملاحدة!
فهذا كقول من قال:
الكلب حيوان ألوف، له شعر كالصوف، فهو طاهر كالخروف!.
 
أكل أمر ضاق عنه عطن فهمكم سارعتم للحوم حول التكفير؟ فذا من سفه أحلامكم، ولو تركتم الكتابة في هذا الشأن لكان لكم في الشائع المستكثر المكرر غنية، كما هو حال غيركم من عينتكم، ولكنهم استطالوا فبلغوا في نظر أنفسهم الغاية، لما كتبوا لغير من يفهم في هذه الأبواب، وأجازهم فيها من ليس من أهلها، وكثر حولهم تصفيق المعجبين! من غير وعي ولا روية.
فبئست السنة التي تسلكون، طريق التلفيق والتقليد متابعين للصدر باسم ابن تيمية زورا.
والسؤال الذي يظهر الأمر كالتالي:
ماذا تخالفون الصدر (الرافضي) في كتابه فلسفتنا؟ مخالفة جوهرية؟
بأي شيء؟
في الواقع إنكم عن الصدر صدرتم، ومن سطوره تتلمذتم، ثم لفقتم ذا مع ابن تيمية!.
 
ولما غاب عنكم من يحسن هذه الأبواب، وحضر من لا يعرف سوى النسخ واللصق وترديد كلام غيره، صار مجادلكم كمن يجادل آلة لا إنسانا يفهم الخطاب ويرد الجواب، كما لو تحاور السوقة في شيء من مباحث فلسفة الفن والجمال!، فما لهم ولذا فطبعهم الصراخ والتحزب، ومخالف سنتهم مخالف للسنة!.
 
نعم يخالف سنتكم، ويستعيذ بالله أن يقربها بله سلوكها.

4

 يأتيك منهم متحذلق بلسان الأدب، ليذكر مقالتي ومقالته على لسان حيوانات الغاب، ويذكرني بفعلته تلك هجاء كارل ماركس لداروين، حين قال: لقد رأى مجتمعه الإنجليزي بين الحيوانات!.
 
ولكن هذا ذكر عين مقالته على لسانهم، وهو منه إقرار على نفسه، وعلى غيره دعوى!، فليتعلم الهجاء من لا يحسنه.
 
وقد صرح بعضهم بأن خير كتاب وقف عليه في المعرفة كان للصدر، فشهد على نفسه بالقعود مع الخوالف في هذه الأبواب بموقفه هذا.
ولا يزال صائحهم ينادي: الحس جزئي ومعرفة العقل كلية فمن أين جاء القفز من الفرد إلى النوع؟
 
فإن قلت له لكونك مثاليا تتعامل مع الوجود كأنه محض فكر فتستشكل انتقال الفرد كن طريق معلومة حسية إلى النوع كمعرفة عقلية.
 
وغاب عنه دور الدماغ! فالدماغ واسطة تنقل المعرفة الحسية إلى كلية ذهنية، كما أنه يركب مدخلات البصر الجزئية لتشكل صورة كلية في الذهن.
 
فماذا يقول ابن تيمية في الدماغ يا أتباع الصدر دون نسبتكم فضله عليكم، يقول: " مبدأ الفكر والنظر في الدماغ"!
 
النص مزعج لهم وهم المشوهون لابن تيمية، فهو لا يقول موضع الفكر وإلا لقلتم الفكر سابق لموضعه، بل قال مبدأ الفكر الدماغ، فالدماغ مادة سبقت الوعي بل الوعي نتج فيه!.
يعترض بعضهم ولكن الدماغ مادة واليد مادة، ولا يترجح اختصاص جزء لإنتاج الفكر دون مخصص.
 
فيقال هذا مبني على تماثل الأجسام، وابن تيمية لا يقول به، بل يقول بأمر لو فطنت له، لربئت بنفسك أن ترعى في تحقيق مقالته مع البطالين.
 
يقول الجسم إن قسمته سيصل إلى نقطة يستحيل فيها، أي يتحول ويتغير، هذا القانون ستنتظر أوروبا هيجل ليقرره في الفلسفة، ومفاده أن التغير الكمي، يؤدي إلى تغير نوعي.
ومعنى هذا أن نوع الدماغ يختلف عن غيره وبالتالي صح اختصاصه لينشأ الفكر فيه.
ومعنى هذا أيضا أن المدخلات الحسية وإن كانت فردية،  إلا أن تراكمها في الدماغ يؤدي إلى تغير النوع ومن هنا ينتج الكلي التجريدي.
فالصراخ مجددا ولكن هناك معضلة الاستقراء!.
 
مجرد كشف عن مرجعكم المفضل الصدر، فهو لما غرق في مثاليته حاول إنقاذها بمثل ذا، ولكن ابن تيمية مختلف، وسيأتي بيانه بعد ذا إن شاء الله.

5

 لما يتعامل البعض بطريقة اعتباطية مع المباحث الفلسفية، وينسب ذلك إلى تحقيق مقالة بطريقة عكسية، يقول مثلًا، ابن تيمية مستحيل أن تبدأ عنده المعرفة من الحس، لماذا؟ لأن هذا يعني وجود مشكلة الاستقراء التي تحدث عنها الصدر!، ماذا يسمى هذا؟ هذا خلط لأبسط قواعد البحث في تحقيق أي مقالة، لنفرض أن كل إشكالات الصدر صحيحة 100%، على هذا المقالة، هل يعني هذا أن ابن تيمية لم يقلها؟ طبعا لا، هذا جانب وذلك جانب، لما تقول هذا حديث ضعيف مثلًا، هل يلزم من هذا، ألا يكون ابن تيمية قاله يومًا؟ أو لم يستدل به، أو لم يجزم بثبوته، هذا خلط تام للبحث، فأولًا حقق المقالة، ثم انظر إلى الإشكالات، التي قد تكون واردة، ولا يعني هذا افتراض بطلانها، أو صحتها!، أما أن يتم نفي مقالة تمامًا لأن عليها بنظر الكاتب إشكالات، هذا لا يسمى إلا طفولية في التعامل مع البحوث.
 
نرجع إلى ابن تيمية، ابن تيمية، عنده في (الرد على المنطقيين) طرح في ارتباط قياس الشمول بقياس التمثيل، فكل قياس شمول يمكن جعله بصورة قياس التمثيل!، في مخالفة للمنطق الأرسطي الذي يدافع عنه الصدر، ومن تأثر به، بل إن ابن تيمية يجعل قياس التمثيل أقوى في كثير من المواضع من قياس الشمول، لماذا؟ لأنه يرتبط بالواقع، وهذا في المنطق الحديث يستعمل بصيغة (إذا)، إذا كانت الخمر مسكرة، فهي إذن محرمة.
 
هذا لا يحتاج إلى مشكلة الاستقراء، بل وحصر التعميم في الاستقراء!، فمن ذا الذي يستقرئ كل شيء،حتى يعمم حكمه، لا المؤمن فعل هذا، ولا الملحد فعله.
 
فعند ابن تيمية مثلًا، لما يستدل بالأسباب يستدل بطريقة غير الطريقة الكلاسيكية، المبتدئة بمقدمة تقول: لكل شيء سبب، بل الأقرب للإنسان، استحضار حادث واقعي، والتعميم بناء عليه، بطريق قياس التمثيل، وفي إثبات الله، بطريق قياس الأولى، هنا يرتبط معينا بمعين، أو أكثر تعيينًا بأكثر تعيينًا على الصعيد الذهني.
 
وهذا يجرنا أصلًا لنظرة ابن تيمية العامة بالانطلاق من المعين، ثم إلى الذهن، ثم الذهن يعود بعملياته العقلية لإثبات معين أو حكم على معين، أما التجريد المحض فهو مثل الرياضيات، يبتعد عن الواقع، ولذا لتقترب من الواقع تأتي ضرورة الفيزياء.
 
أما الخلط بين الصدر وابن تيمية، فهو خلط بين المنطق الأرسطي، بكافة ما نقده ابن تيمية عليه، ونقد ابن تيمية نفسه عليه، وبعد ذا، يقال هذا قول ابن تيمية.
 
لقد بلغ تأثر هؤلاء بالصدر إلى الحد الذي يمكن معه التنبؤ بكتبهم، ومقالاتهم قبل أن تبدأها، فيكفي أن تقرأ كتاب (فلسفتنا) للصدر، لتعرف ما مضمون رسالة عن (نظرية المعرفة في الإسلام)، أو (نظرية المعرفة عند ابن تيمية) ولا إشكال أن تصير (نظرية المعرفة عند الغزالي)!.
 
كله قبليات، ألم يقل (ابن مسكويه ذلك في رسالته في العقل)!، مع أن ابن مسكويه يتحرك في فلك ما اصطلح عليهم وقتها بـ (الفلاسفة)، فعجبا لمن يقرر مذهبًا لابن تيمية، من كلام مخالفيه!

6

 وكلما وضع كلامهم الهش تحت مطرقة النقد، صاحوا، من هو يوسف سمرين؟ لا نعرفه، لا يعرفه أحد، له منشورات على الفيس بوك فحسب، له رسالة في كذا، ما دخل كل هذا في المسألة؟!، هل أنت في مناظرة معه؟ - على فرض أنه قبل أن يناظرك - بطبيعة الحال لا، إذن هب أن كلامه كان على ورقة مرمية في فلاة، فهل ما فيها صحيح أم لا، ولماذا، هب أنه مجهول تمامًا، فالكلام إن كان صحيحًا لم يضره جهلك، وإن كان باطلًا لا ينفعه علمك به.
الطريف أن الموضوع معكوس عليك، فمن هو فلان وفلان من القائلين بمقالتك؟ فإن كان معروفًا في بلدك،  فهو مجهول هنا، وقلة من يعرفون اسمه، ويحق لغيرك أن يسألك من هم هؤلاء الذين تتحدث عنهم، أبواحد تخصصه عربية، وآخر عقيدة، صاروا فلاسفة؟! فهذه على التنزل ليست حجة سليمة، غايتها أن تصلح عند من يعظم شيخك، والقائل بمقالتك، فإن كان خصمك لا يعظّمه، فحتى من باب الإكراه الأدبي لا ينفع هذا معه.
وهؤلاء يتهمون من خالفهم بـ (المدخلية)!، وكأنهم يعيدون كلمات المدخلي:
 "
ربيع تلقى العلم في مختلف مراحله على كبار العلماء وينجح في الأوائل دائمًا، وينال أرقى الشهادات وأعلى الدرجات العلمية، ويصل إلى درجة أستاذ، ويدرس الدراسات العليا، ويشرف على عشرات الرسائل ما بين ماجستير ودكتوراه "
(
مجموع المدخلي ج 13، ص 429.)
 
فيقال لهم: غاية الأمر أن من قال بقولك من مشايخك، سيقولون هذا في أنفسهم، فماذا يفترض أن أفعل، أضع لهم نجمة على جباههم مثلًا، تبجيلًا للتفوق الذي أحرزوه؟ حسن.. ولكن لا علاقة بين هذا والنتيجة المفترضة!.
 
وهذا الرجل الذي ترد عليه مجهول، فلماذا أشغل أحد معظّميك إلى درجة أن يستفتح أول منشوراته في حسابه للرد عليه، ثم لا يحصل معه على طائل، بل غاية الأمر أن معظّمك نفى ما قاله هو نفسه في كتابه، ورجع كسير الخاطر، لا يلوي على شيء!.
 
وكانت ردوده من عينة التسجيلات الصوتية، مما يصلح للمواعظ والقصص، لا التناظر والجدل، فإن كان هذا يصلح في مكان بينكم، فليس هو بصالح في كل مكان!.
 
أما نفسية الرجل الإقطاعي، الذي يتعامل وكأن الناس حوله خدم وحاشية له، فلا تنفع ها هنا، فما كل الناس تخنع أنوفهم، بل لعلهم لأنوف من تجبر أرغم.
 
أما بخصوص الفيس بوك، فمثله مثل أي وسيلة لإيصال المعلومة، فمثلًا (والمثال لا يقتضي الوقوع) إن قمت بإهانة شخص هنا منهم، سيكون الأمر مماثلًا لما لو أهنته في كتاب، فالأمر متماثل، إلا إن اعتبر أنه لن يهان إلا بختم دار نشر، فلعل بالتجربة ما يغير الأمر!.

7

نرجع إلى الفلسفة، فهؤلاء الذين يتبجحون بالقبليات ولا يعرفون ما يعتريها من إشكاليات، وإليك بعضها:
1.   إن هذه القبليات التي تسبق التجربة، ما هي وكيف سيتم تحديدها، فكل فرقة يمكنها أن تدعي عددا من القبليات ليس موجودًا عند غيرها، نصرة لمقالاتها، فكيف سيتم تحديد هذه القبليات؟ هل سيتم تحديد القبليات بقبليات مثلها؟ أم سيكون ببعديات (بعد الحس) فإن كان الثاني كيف يحكم الفرع على أصله الذي هو أساسه؟ وإن كان الأول، فنحن لم نحدد القبليات أصلًا فكيف سنعرفها بها؟
2.   سلمنا جدلًا أنه تم تحديد عدد من القبليات، فما الذي يضمن أن كل البشر عندهم نفس القبليات؟
3.   لنفرض أنهم اختلفوا فيما بينهم في عدد القبليات، فبعضهم عنده 3، وبعضهم 6، هل يمكن أن يقيم أصحاب 6 حجتهم على أتباع 3، فإن قيل نعم، قيل ما الضامن إذن بأن باقي 3 أصلًا قبلية، وقد أمكن أن يكون 3 من 6 بعدية!!
4.   سلمنا جدلا ً أن كل البشر عندهم نفس القبليات، وأننا حددنا عددها، فما الذي يضمن صحة هذه القبليات؟ هل تقيم دينًا كاملًا تزعم أنه قائم على دليل وبرهان، بناء على معارف لا يمكن التحقق منها البتة، فقط التسليم بأنها صحيحة من باب الافتراض؟ ومن باب الإيمان الاعمى أنها صحيحة، فخذ إذن أي شيء بعدها من نفس الباب، فما الحاجة للبرهنة أصلًا؟
5.   من أين جاءت هذه القبليات؟ هل سيقول من الله، بمعنى إن الله معرفته قبلية؟ أم معرفة أساس القبليات بعدي، فإن كانت معرفة الله قبلية، فكيف يمكن إقامة البرهان على قبلي، ببعدي؟ فإنه إن أمكن هذا، طرأ الشك على كونه قبليًا أصلًا.
6.   سلمنا أنها صحيحة تمامًا، فما الذي يجعلك تفترض أن الواقع نفسه يتبعها، مثلًا لنفرض أن الإنسان يرى أن لكل شيء سببًا في عقله من باب قبل الحس، ما الذي يجعله يفترض أن العالم المحسوس سيعمل وفق معرفته القبلية، فإن قال الواقع نفسه: قيل أنت لن تقرأه إلا بناء على معرفتك القبلية، والنتيجة إذن أن الواقع قد يكون فوضى والعقل هو الذي ينظمه، فإن كان هذا واقعًا في هذا العالم، فكيف تفترض صحة الأمر بما هو خارج عن هذا العالم الذي تعيش فيه!
7.   سلمنا أنها صحيحة ومتطابقة، ومطابقة للعالم، فهي قبل الحس، فما علاقة المعرفة الناشئة بما بعد الحس بما قبل الحس؟ وكيف يتفاعل غير المحسوس بالمحسوس (طبعًا بدون سر الكهنوت، وأن اللاهوت في الناسوت بلا كيف )..

 هذه أسئلة ارتجالية سريعة، وأقدّر أن محركات البحث عندهم بطيئة، وأن النسخ واللصق فيها صعب، وأنهم حالة يرثى لها في هذا المجال، فليستصرخوا شهاداتهم، لعلها تجيب عنهم بشيء في هذا!..
أعتقد كفاية لليوم..
 
مودتي