3.15.2017

كلمة في حق فاضل

 25 ديسمبر

كلمة في حق فاضل


محمد صالح العثيمين، ذلك الفقيه، الأصولي، النحوي، لا أبالغ إن قلت لم أعرف عالمًا معاصرًا له هيبة العلماء مثله، لم أدركه، ولو أدركته لسعيت لزيارته، والاستفادة منه، سمعته سماعًا، وقرأت له قراءة، وعند قراءتي لأي كتاب فقهي، أكاد أجد بين حروفه نبرة صوت العثيمين، يعلم جاهلًا، ويفيد سائلًا..
 
قبل أن أعرفه - ولم يحلني إليه أحد أعرفه، إنما دفعني إلى معرفته كتاب جر إليه كتاب وهكذا - كنت أقرأ لبعض من أسمع مدح الناس له، فأجد فيه نقصًا في الإفادة، يذكر مصادره المهولة، دون أدلته، ولا وجه استدلالاته، بل تجده يقول قال فلان هذا حرام، وآخر مباح، ونختار الوسط! مكروه، فلا تدري ماذا سيصنع لو اختلفوا في مسألة على خمسة أقول، فكيف وهناك من المسائل ما يفوق الخلاف فيها عشرين قولًا ويزيد.
 
كنت أستثقل الأمر، فأقول في نفسي: وكأن الكاتب حريص على ألا يعلمك صنعته!، إنك مجبر على ذكره هو لا معرفة استدلاله، إنك تعود إليه دومًا وحتمًا، ثم فرق بين بيان الحكم وبين بيان العلم لطالبه!، فماذا أصنع وقد شغفت حبًا بطلب العلوم الشرعية، ثم عثرت على كتاب يشرح الواسطية، واقدروا لذلك الحدث سنه، وهو يقلب صفحات هذا الكتاب، ويلتهمه كما يزدرد جائعٌ طعامًا.
ثم عثرت على كتاب في الفقه، سماه جامعه (الفقه على المذاهب الأربعة)، وبدأت بقراءته بنهم، فإذا هو مقطع تقطيعًا، لا تكاد تتابع بابًا، حتى ينقطع الحديث وينتقل إلى غيره، فبحثت في الحواشي، فوجدت أنه مستل من دروس صوتية للعثيمين!، فطرت فرحًا بأن له دروسًا صوتية، ولم أكن أعلم بها، ولا دلني عليها مخبر، فمن أين أحضرها، والمرء هنا يجهد ليعثر على كتابٍ للعثيمين، فكيف بدروس صوتية، حتى علمت بوجود محل فيه شبكة إنترنت، وكانت في بداية الظهور، مخصصة لطلاب الجامعة، ودخلته ولا تجد فيه من يعينك على كيفية استعماله، ثم ظفرت بعد جهد ببعض شروحه، وبدأت أستمع إليه يدرّس الأجرومية والألفية، وزاد المستقنع، أحمّل الدرس والدرسين وكان وقتها تمضي الساعة وأنت تقوم بإنزال مادة صغيرة، ثم تنقلها، وتكررت زياراتي وأنا أحمّل كل مرة درسًا أو أكثر، وبدأت أدمن سماعه، وقد أتسمر لساعات طوال، أسابق الفجر في سماع دروسه، فلا أفطن إلا وقد جاء وقت المدرسة، ثم أعود متلهفًا لسماعه إلى البيت فلا يفصلني عنه إلا الصلاة، وما أقيم به أودي.
 
ولم أعرف سلفيًا وقتها عن قرب، ولا ما يميزهم عن غيرهم، ولا فهمت من العثيمين أنه يدعو لانتماء لحزب، أو نصرة طائفة تعصبًا لا عن أدلة، ولا فهمت أنه زهّد بفقه الأئمة الأربعة، بل ما كان إلا معظمًّا للسلف، ملتمسًا العذر لمخالف في مسائل، يدفع إلى الانتفاع من كتبهم، والتشبع من علومهم، ولما التقيت بعد ذلك برجل قال إنه سلفي، فإذا به يتشدد في مسائل الخلاف فيها شهير، ويزهد في الفقه علمت أنه أجنبي عن العثيمين، فما يقول هذا من سمع له شيئًا، فكيف بأحدهم اليوم يعمم صورة هذا الشاب، ويقزم أمر ذلك العلم، في غمرة نقده للسلفية.
 
ودارت الأيام، وكبرت، وقرأت أكثر ولم أتكاسل عن القراءة رغم امتناع السماع لذلك الفاضل، فقد حجزني السجن عن سماعه لسنوات، ثم عدت ودخلت كلية الدعوة وأصول الدين، وتخصصت في مجال الفقه، مع شدة نهمي بالفقه وكتبه وعلومه، ومع كثرة من قابلتهم ممن يشار إليهم بالبنان، وكم من معظّم في عين الصغير يتصاغر شأنه حين يكبر، وكم من خبر صدّقه طفل كذّبه في بلوغه، إلا أنني لما أستمع إلى درس للعثيمين بعد هذا الحين أتصاغر عارفًا بحقه وفضله وقدره، مدركًا جهلي، لا فضيلة في هذا تلفني بل هو تحقيق للأمر على وجهه، فرحمه الله من معلّم، وجزاه الله خيرًا على ما تفضل به علينا، رغم بعد الشقة، وعدم إدراكه، إلا أن من حسنات المرء علمًا ينتفع به بعد موته.
 
ثم تجد بعدها من يتشبع بما لم يعط، يقيم نفسه حكمًا يقيّم العثيمين فهو عنده وسط في الطلب، له اطلاع على روضة الناظر لابن قدامة، وله مشاركة في الفقه!، وعلومه قد تجاوزها الزمن حد الاستهلاك المكرر، فينتظر ما يدفعه رحم الزمان فيما بعد، وعند مطالعتك لآرائه لا تجدها إلا شذرات مقطعة، علاقة النتيجة عنده بما سبقها من تسلسل، كعلاقة فاقت اقتران العاديات في نظر الأشعري، هي من قبيل المصادفات، بل المفاجآت، فأضحى الصدر في (فلسفتنا) نموذجًا للعبقرية الفذة عنده، وما كتابه ذلك إلا أضحوكة بين النظريات، وهو مجرد بناء فوقي لخرافات تاريخ الظهور وما بعد الظهور لسميه الصدر الآخر، وما يسحر به المعممون عقول الصبيان، فذلك عبقري، وفاضلنا يجري تقييمه بما اقتصه المتشبع زورًا من هنا وهناك.
 
مودتي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق