*************مقالات مدونات الجزيرة*************
18 أكتوبر 2016
في النقد
1
يضرب تيري إيجلتون مثالًا طريفًا على الدوغمائيين
اليساريين حين يقول: "إن سألناهم عن ثلاثة أخطاء وقع بها اليسار سيعجزون عن
بيانها، وهذا سيكون كافيًا لبيان انغلاق هؤلاء فكريًا مع طول التجربة التي خاضوها،
إنهم خاضوا تجربة لا يكفي في الحديث عنها بعض الشعارات الغامضة التي تستر وضوحية
نظرتهم إلى الواقع المتغير، وللأخطاء المتراكمة الملازمة للعمل البشري".
مصطلح وضوحية تحدث عنه كارل بوبر، ومفاده تلك النظرة
الساذجة التي تتجاوز تعقيد الواقع، بحجة أنه واضح، فيرى بوبر أن النظرة العلمية
تقتضي كون اليقين الجامد يزداد كلما ابتعدنا عن الواقع، في حين كلما اقتربنا منه
كلما استرعى ذلك نظرًا أبعد ما يكون عن الصيغ الجاهزة التي تختزل الواقع بحركته
وتعقيداته بمصطلحات جامدة، كأنها قيلت مرة واحدة وإلى الأبد.
التعقيدات الواقعية وتغيراتها وما يستتبع ذلك من
تفنيد للعديد من الكلمات العامة الجامدة، لا يعني هنا الوصول إلى حالة التشظي التي
تدفع إلى اللامبالاة، والاستهتار والعدمية التي تجد الشاعر البرتغالي فرناندو
بيسوا قد عبر عنها بجدارة وكأنه يدخل في صراع لمحاربة الثقة بعقل سوي، فارًّا إلى
المشاعر فحسب، بحجة أن الواقع متشظٍ، إنما تعني على وجه أدق هنا كلمة سلافوي جيجيك
وهو يقول تعليقًا على كلمة ماركس: "لقد
سعى الفلاسفة لفهم العالم ومهمتنا هي تغييره"، يعلق سلافوي: "لعلنا
تسرعنا في تغيير العالم، ويفترض بنا العودة إلى فهمه".
الحاجة إلى فهم العالم يقتضي دومًا المراجعة، والنقد، تلك الكلمة التي تعني التمييز، وقد يقصد بها اصطلاحًا بيان الخطأ والباطل، لتجاوزه، كانت الحاجة إلى فهم العالم بطريقة مختلفة عن تلك النظرة إليه أيام أرسطو تستدعي تغييرًا في الأسس الفلسفية التي أقام عليها منطقه، ومن هنا كان فرانسيس بيكون رائد النقد في أوروبا للمنطق الأرسطي في كتابه (الأورجانون الجديد)، كان النقص في رصد حركة الواقع كذلك هو ما دفع هيجل لرؤية العالم كوحدة مترابطة، بدل عملية التجزيء الكلاسيكي الذي يعجز عن رصد تلك الحركة الواقعية للأفكار والأحداث. ومن هنا كان منهج هيجل الجدلي في وجه المنهج الميتافيزيقي، والذي يعني هنا تحديدًا تلك النظرة التي تفصل الشيء عن حركته الواقعية وتجرده، وتتعامل معه لتحديد ماهيته وجوهره، مفترضة وجودها بقطع النظر عن أي شيء غيره.
إلا أن النقد ليس منفردًا في الساحة، بل يجابه بسيل من العبارات المحاربة له، والتي تخفي في باطنها مصالح تدافع عنها، فليس لازمًا لكون الشيء صحيحًا أن يتم الاعتراف به، فهذا قدر زائد عليه، ويتوقف على أمور كثيرة، ومن تلك العبارات ما تحاول أن تكون عقبة أمام النقد لنفيه تارة ولتحجيم دوره تارة، لحربه تارة وللمصالحة معه تارة أخرى. من تلك العبارات: تقسيم النقد إلى نقد بناء وآخر هدام. وهذه العبارة لو جردناها من سلطة الكلمات البراقة ستكون: هناك نقد مقبول وآخر مرفوض، بناء على نتيجة النقد فإن بنى فهو مقبول وإن هدم فهو مرفوض، وهذه نظرة براغماتية بالنظر إلى الكلمة بصيغتها المبتذلة، وإلا فكون الشيء صحيحًا لا يرتبط بهدمه ولا بنائه، و يلزم من المنصف قبوله بقطع النظر عن هذا، فكيف إن علمنا أن النقد بمعناه بيان الباطل بحد ذاته سيهدم الباطل.
ولعل من هذا أيضًا تقزيم النقد بحجة أنه لا ينبني عليه عمل. وهذه حتى على الصيغ البراغماتية قد لا يستقيم الأمر فيها تمامًا، فكون الشيء مرتبطًا بالعمل لا يلزم من هذا أن يكون العمل مباشرًا، بل قد يكون على الأمد الأبعد، فمثلًا الصعود إلى الفضاء تأخر عن معرفة القوانين التي مهدت له، فكونها صحيحة ولو نسبيًا في ذلك العصر، وكانت سترتبط بالعمل، ولكن بعد حين، ومن هنا يسلم جون ديوي وهو براغماتي أصيل بالعمل كقوة ولا يشترط له الفعل، أما جون ستيورات مل فيرى أن المنفعة قد تكون للأكثر ولو على الأمد الأبعد.
الحاجة إلى فهم العالم يقتضي دومًا المراجعة، والنقد، تلك الكلمة التي تعني التمييز، وقد يقصد بها اصطلاحًا بيان الخطأ والباطل، لتجاوزه، كانت الحاجة إلى فهم العالم بطريقة مختلفة عن تلك النظرة إليه أيام أرسطو تستدعي تغييرًا في الأسس الفلسفية التي أقام عليها منطقه، ومن هنا كان فرانسيس بيكون رائد النقد في أوروبا للمنطق الأرسطي في كتابه (الأورجانون الجديد)، كان النقص في رصد حركة الواقع كذلك هو ما دفع هيجل لرؤية العالم كوحدة مترابطة، بدل عملية التجزيء الكلاسيكي الذي يعجز عن رصد تلك الحركة الواقعية للأفكار والأحداث. ومن هنا كان منهج هيجل الجدلي في وجه المنهج الميتافيزيقي، والذي يعني هنا تحديدًا تلك النظرة التي تفصل الشيء عن حركته الواقعية وتجرده، وتتعامل معه لتحديد ماهيته وجوهره، مفترضة وجودها بقطع النظر عن أي شيء غيره.
إلا أن النقد ليس منفردًا في الساحة، بل يجابه بسيل من العبارات المحاربة له، والتي تخفي في باطنها مصالح تدافع عنها، فليس لازمًا لكون الشيء صحيحًا أن يتم الاعتراف به، فهذا قدر زائد عليه، ويتوقف على أمور كثيرة، ومن تلك العبارات ما تحاول أن تكون عقبة أمام النقد لنفيه تارة ولتحجيم دوره تارة، لحربه تارة وللمصالحة معه تارة أخرى. من تلك العبارات: تقسيم النقد إلى نقد بناء وآخر هدام. وهذه العبارة لو جردناها من سلطة الكلمات البراقة ستكون: هناك نقد مقبول وآخر مرفوض، بناء على نتيجة النقد فإن بنى فهو مقبول وإن هدم فهو مرفوض، وهذه نظرة براغماتية بالنظر إلى الكلمة بصيغتها المبتذلة، وإلا فكون الشيء صحيحًا لا يرتبط بهدمه ولا بنائه، و يلزم من المنصف قبوله بقطع النظر عن هذا، فكيف إن علمنا أن النقد بمعناه بيان الباطل بحد ذاته سيهدم الباطل.
ولعل من هذا أيضًا تقزيم النقد بحجة أنه لا ينبني عليه عمل. وهذه حتى على الصيغ البراغماتية قد لا يستقيم الأمر فيها تمامًا، فكون الشيء مرتبطًا بالعمل لا يلزم من هذا أن يكون العمل مباشرًا، بل قد يكون على الأمد الأبعد، فمثلًا الصعود إلى الفضاء تأخر عن معرفة القوانين التي مهدت له، فكونها صحيحة ولو نسبيًا في ذلك العصر، وكانت سترتبط بالعمل، ولكن بعد حين، ومن هنا يسلم جون ديوي وهو براغماتي أصيل بالعمل كقوة ولا يشترط له الفعل، أما جون ستيورات مل فيرى أن المنفعة قد تكون للأكثر ولو على الأمد الأبعد.
هناك مغالطة تسمى الاستدلال
بالجهل، وصورتها إما أن تسلم بكلامي أو تأتي بخير منه، وهذا لا يلزم أبدًا
للناقد.
|
ومن هنا أيضًا رفض النقد بناءً على
الأسلوب. فكون الأسلوب مرفوضًا لا يجعل بالضرورة من معناه -لو حذفنا الأسلوب-
باطلًا، والاستبشاع لا يلزم منه البطلان، كلايف بل يقول على سبيل المثال: "لو رفضنا عمليات
التشريح للتقزز من منظر الجثة الميتة، ولفظاعة تقطيع أجزائها بالمبضع، لكنا اليوم
نعيش جهلًا بيلوجيًا مطبقًا"،
ومن هنا فإن تقييم رد ابن تيمية مثلًا على ابن المطهر الحلي لوجود حدة في بعض
العبارات، هو نظر للغلاف دون المحتوى، وهب أن أسلوبه لم يكن صحيحًا، فالخطأ في وضع
كلمة حليب على إناء فيه سم لا يجعل منه سائغًا للشرب، وكذلك الخطأ في تسمية الحليب
سمًا لا يبرر أن تسكبه ليذهب في الأرض! قصارى الأمر أن تعدل الأسلوب، وهذا يجرنا
إلى مسألة تجزيء النقد.
فالنقد ليس كلًا لا يتجزأ، بل قد تنقد منه الأسلوب فهذا شيء، والمضمون شيء آخر، على أن تجزيء نظرتنا إلى النقد، لا يفترض أن يجعلنا نغفل عن المحتوى الكلي، أو حكمه كمجموع، فالجبل من ذرات، ولا يعني هذا أن كل ما تكون من ذرات سيشكل بالضرورة جبلًا، فالحكم الكلي مهم لفهم المنهج والقانون العام للأطروحة والنقد، وقد يتم نقد النقد فيتحول وقتها إلى أطروحة منتقدة وهكذا.
من محاولات التقزيم والعقبات: ما البديل لرفض النقد! هناك مغالطة تسمى الاستدلال بالجهل، وصورتها إما أن تسلم بكلامي أو تأتي بخير منه، وهذا لا يلزم أبدًا للناقد، فإبطال خرافة كالعنقاء مثلًا، ليس لازمًا له الانتقال إلى إثبات أنواع الديناصورات، كذا إبطال علاج زائف للإيدز لا يلزم منه إثبات العلاج له، على أن كل نقد يحمل في طياته كما يقول هايدجر تأسيسًا، فالنقد بإبطال الخرافة، يدفع نحو منهج علمي لإثبات الصحيح، كتمهيد وإيجاد لشروط رؤيتنا له.
فالنقد ليس كلًا لا يتجزأ، بل قد تنقد منه الأسلوب فهذا شيء، والمضمون شيء آخر، على أن تجزيء نظرتنا إلى النقد، لا يفترض أن يجعلنا نغفل عن المحتوى الكلي، أو حكمه كمجموع، فالجبل من ذرات، ولا يعني هذا أن كل ما تكون من ذرات سيشكل بالضرورة جبلًا، فالحكم الكلي مهم لفهم المنهج والقانون العام للأطروحة والنقد، وقد يتم نقد النقد فيتحول وقتها إلى أطروحة منتقدة وهكذا.
من محاولات التقزيم والعقبات: ما البديل لرفض النقد! هناك مغالطة تسمى الاستدلال بالجهل، وصورتها إما أن تسلم بكلامي أو تأتي بخير منه، وهذا لا يلزم أبدًا للناقد، فإبطال خرافة كالعنقاء مثلًا، ليس لازمًا له الانتقال إلى إثبات أنواع الديناصورات، كذا إبطال علاج زائف للإيدز لا يلزم منه إثبات العلاج له، على أن كل نقد يحمل في طياته كما يقول هايدجر تأسيسًا، فالنقد بإبطال الخرافة، يدفع نحو منهج علمي لإثبات الصحيح، كتمهيد وإيجاد لشروط رؤيتنا له.
2
محاولة تجاوز النقد، والحيل للالتفاف عليه كثيرة، ومن
تلك الحيل ما تعرض له جوليان باجيني والذي تحدث عن "خديعة الحكمة"،
والمقصود بها: تلك الأمثال التي يمكن الاستشهاد بها في التعليق على موضوع، والقدر
هائل من الأمثال المتوفرة، والحِكم "المزعومة"، مما يكفي لتعطيل ملكة
النقد، وجعل المرء يتعامل مع الواقع والفكر كآلات الصرافة البنكية، تضع فيه مدخلًا
تعريفيًا فيخرج لك ما يوازيها من النقود.
إن فشِل قال "من لا يعمل لا يخطئ"، وإن نجح
قال "من جد وصل"، إن وصل دون تعب قال "رُب رمية من غير رامٍ"
وإن خسر من المرة الأولى قال "الخطأ يمهد للصواب"، وإن فشل في الثانية قال
"الثالثة ثابتة"، وإن ترك المحاولة قال "إذا لم تستطع شيئًا
فدعه" وهكذا.. وهذا كفيل بتحويل الإنسان من كائن مفكر، إلى كائن مستحضر لكل
مسموع يخفف عنه شكواه، أو يبرر له أفعاله.
سلطة اللغة تلعب هنا دورها، فبقليل من الحيل اللفظية،
يعطي مثلًا متعارفًا عليه وكأنه صيغ بدقة عالية عبر الزمن: الأمر الذي يدفع إلى
الافتراض بأن حكمة كبرى وراءه، فإن كان مسجوعًا زاد ذلك من سلطة المثل، وكأنه حجة
بحد ذاته، إن الإحالة إلى نص مكتوب أيًا كان ذلك النص، أو مثل متعارف عليه، أو بيت
شعر، كفيل بإعطاء هالة حول الموضوع، وهو ما ينظر إليه الناقد نظرة ريبة وفحص.
كان ممن تنبه إلى سلطة النص المكتوب سعيد حوى، حيث ذكر أن قراءة لوائح من ورق مطبوع تعطي هيبة في نفس السامع للقوانين المذكورة، وهذا ما يفترض بالناقد أن يتنبه إليه، فسلطة النص -أي نص مكتوب- يفترض أن يتم تجاوزها في بحث صدق أو كذب المكتوب، وهو ما يفترض أن يمر على مذبح النقد قبل أن يتم هز الرأس له إيماءً بالموافقة عليه أو تمعر وجه لرفضه.
كان ممن تنبه إلى سلطة النص المكتوب سعيد حوى، حيث ذكر أن قراءة لوائح من ورق مطبوع تعطي هيبة في نفس السامع للقوانين المذكورة، وهذا ما يفترض بالناقد أن يتنبه إليه، فسلطة النص -أي نص مكتوب- يفترض أن يتم تجاوزها في بحث صدق أو كذب المكتوب، وهو ما يفترض أن يمر على مذبح النقد قبل أن يتم هز الرأس له إيماءً بالموافقة عليه أو تمعر وجه لرفضه.
إن وجود سلطة أو هيبة أو هالة حول العبارات التي
تواجه النقد، هي أقوى في الفاعلية والأثر من العبارات نفسها، التي لو تم تجريدها
من تلك الهالة لكان نقدها أيسر على السامع، فسلطة الاحترام أو الرفض لشخص معين أو
لسلوك معين، قد تعيق تمامًا عن رؤية كثير من العبارات الممانعة للنقد، على سبيل
المثال، تلك الجملة التي شاعت فترة في بعض الأوساط الإسلامية "لا يفتي قاعد
لمجاهد"، هنا نجد هيبة واحترام فعل الأخير، استعملت كمبرر لرفض فتيا القاعد
أيًا كانت تلك الفتيا -صحيحة أوباطلة-، على أن هذه القاعدة ليست نصًا شرعيًا ولا
قاعدة فقهية، ولا حكما فرعيًا مستنبطًا بقواعده، ونستطيع أن نقارنها بنص شرعي يقول
"صدقك وهو كذوب" لمعارضة تلك السلطة المستعملة كعقبة أمام النقد، أو تلك
العبارة المتكررة من كثير من العلمانيين "هذا تردي إلى السلطة الدينية -
الثيوقراطية" لرفض أي نقد ولو كان صحيحًا كطلب إطفاء سيجارة منه في مكان عام.
الهيبة أو السلطة تتحرك بأشكال مختلفة بين الذات والموضوع، عبر التاريخ، والأعراف، والإيماءات لتشكل نظامًا يفرض نمطًا معينًا من الرؤية، بحيث تحجب بقليل أو كثير لرؤية الأمور كما هي عليه، واحدة من تلك السلطات هي السلطة الأبوية التي تعرض لها بالنقد جون لوك في كتابه المدنية، فإسقاط كثير من مفاهيمنا عن الأب في الأسرة على الصعيد السياسي، يمنع من الالتفات إلى السلطة السياسية بطريقة مختلفة عن رؤيتها كسلطة طبيعية أو جبرية كما هي في حال الأب مع ابنه، فالابن لا يختار أباه، يولد ووالده موجود، وبلوغ الأب وقصور الابن كفيل بجعل الأخير تابعًا لتربية وسلطة الأب.
الهيبة أو السلطة تتحرك بأشكال مختلفة بين الذات والموضوع، عبر التاريخ، والأعراف، والإيماءات لتشكل نظامًا يفرض نمطًا معينًا من الرؤية، بحيث تحجب بقليل أو كثير لرؤية الأمور كما هي عليه، واحدة من تلك السلطات هي السلطة الأبوية التي تعرض لها بالنقد جون لوك في كتابه المدنية، فإسقاط كثير من مفاهيمنا عن الأب في الأسرة على الصعيد السياسي، يمنع من الالتفات إلى السلطة السياسية بطريقة مختلفة عن رؤيتها كسلطة طبيعية أو جبرية كما هي في حال الأب مع ابنه، فالابن لا يختار أباه، يولد ووالده موجود، وبلوغ الأب وقصور الابن كفيل بجعل الأخير تابعًا لتربية وسلطة الأب.
إلى أي درجة كانت هذه السلطة مستثمرة في كثير من
النواحي الروحية والسياسية والاجتماعية.. الخ؟ فكثيرًا ما يبدأ القساوسة حديثهم
باسم الأب، وهذا يحاكي أو يغازل مخيلة السامع بداية عن سلطة أبيه عليه، أو خطاب
زعيم لأبنائه، أو حتى بعض الإسقاطات على بعض المرجعيات الدينية (سماحة الوالد فلان
حفظه الله) علمًا أن كل هذه الأمثلة لا يتوفر فيها ما هو موجود في حال الأسرة،
وسلطة الأب فيها، فضلًا عن طبيعة الأب واختياراته لابنه باعتباره امتدادًا له، فإن
سلطته محكوم عليها بالانتهاء والانتقال بشكل طبيعي إلى أبنائه، بخلاف الأمثلة
السابقة التي لا يشترط أن تنتقل أي سلطة فيها إلى من وصفوا بالأبناء.
سلطة الأب، تسمى منازعتها عقوقًا، وبالتالي سيُنظر إلى أي نقد على الصعيد الروحي، أو السياسي بوصفه خروجًا أو هرطقة لمحض المخالفة بقطع النظر عن صوابها أو بطلانها، على هذا الصعيد كان نقد باولوفريري لسلطة المعلم بطريقته الكلاسيكية، بحيث يقتل أي تفاعل بينه وبين الطالب، وهذا ما يؤدي إلى آلات الحفظ الصماء، التي تفرغ حمولتها على أسطر الامتحانات، وكأنها تستقيء طعامًا زائدًا لا أن تلك المعارف هضمت ثم أنتجت طاقة لعمل ذهني، وهذا لا يتم دون تفاعل نقدي بين المعلم والطالب، فليست وظيفة المعلم تعزيز هالة أبوية في ذهن الطالب، بحيث ينتج ببغاء يردد مقولات المعلم، إن الطريقة التلقينية في التعليم، تمسخ ملكة النقد عند الطالب، وتعزز قابلية التلقي والترديد، مما ينعكس على طريقته في الحياة فيما بعد، ومن هنا كثيرًا ما كانت طبقة النخبة المثقفة "الإنتلجنسيا" مدجنة وتبريرية للسلطة، بحيث تتغير أطروحاتها بتغير السلطة، فهي متأثرة لا مؤثرة، مبررة لا نقدية.
سلطة الأب، تسمى منازعتها عقوقًا، وبالتالي سيُنظر إلى أي نقد على الصعيد الروحي، أو السياسي بوصفه خروجًا أو هرطقة لمحض المخالفة بقطع النظر عن صوابها أو بطلانها، على هذا الصعيد كان نقد باولوفريري لسلطة المعلم بطريقته الكلاسيكية، بحيث يقتل أي تفاعل بينه وبين الطالب، وهذا ما يؤدي إلى آلات الحفظ الصماء، التي تفرغ حمولتها على أسطر الامتحانات، وكأنها تستقيء طعامًا زائدًا لا أن تلك المعارف هضمت ثم أنتجت طاقة لعمل ذهني، وهذا لا يتم دون تفاعل نقدي بين المعلم والطالب، فليست وظيفة المعلم تعزيز هالة أبوية في ذهن الطالب، بحيث ينتج ببغاء يردد مقولات المعلم، إن الطريقة التلقينية في التعليم، تمسخ ملكة النقد عند الطالب، وتعزز قابلية التلقي والترديد، مما ينعكس على طريقته في الحياة فيما بعد، ومن هنا كثيرًا ما كانت طبقة النخبة المثقفة "الإنتلجنسيا" مدجنة وتبريرية للسلطة، بحيث تتغير أطروحاتها بتغير السلطة، فهي متأثرة لا مؤثرة، مبررة لا نقدية.
إن الطريقة التي تعرضوا لها عبر مراحلهم التعليمية،
كانت طويلة بحيث وزعت أجزاؤها الإكراهية عليهم عبر سنوات الدراسة، بحيث لا يفطنون
إلى مجموعها وأثره على نفسيتهم فضلًا عن الأثر على قدراتهم المعرفية، كما أن ارتباط
حيازة المرتبة العلمية المعترف بها بالوفاق الكبير مع المعلم أو المحاضر أوالدكتور
المشرف، بحيث ترتبط شرطيًا مخالفته بتقليل فرص النجاح أو التفوق، مما يجعل من
النقد مرتبطًا في أذهانهم بالفشل، وضياع المستقبل العلمي والمهني.
هذا ما سينعكس على العملية التعليمية الراجعة ممن تعلم بتلك الطريقة على الطلاب، إذ سيرى أن من العادل أن يخوض الطلاب كل ذلك الإكراه الذي مورس عليه قبل أن يصلوا بعده إلى المرحلة التي وصل إليها المعلم، ومن هنا يصنع هذا النمط من التعليم جيلًا محافظًا، يخشى المخالفة والنقد، ويرى أشباح العقوبات المعنوية والمادية تطارده كلما ذكر أمامه هذا الاسم "النقد".
هذا ما سينعكس على العملية التعليمية الراجعة ممن تعلم بتلك الطريقة على الطلاب، إذ سيرى أن من العادل أن يخوض الطلاب كل ذلك الإكراه الذي مورس عليه قبل أن يصلوا بعده إلى المرحلة التي وصل إليها المعلم، ومن هنا يصنع هذا النمط من التعليم جيلًا محافظًا، يخشى المخالفة والنقد، ويرى أشباح العقوبات المعنوية والمادية تطارده كلما ذكر أمامه هذا الاسم "النقد".
3
كان "شوبنهاور" لا يعوّل على التجديد عبر
الجامعات، بل كان يرى أن التجديد الحقيقي يبدأ خارج أسوارها، ويشرح
"نيتشه" هذا في كتابه "شوبنهاور مربيًا" بقوله "إن
الطلاب يخشون فيها من يدرّسهم، ومن يدرّسهم يخشى الرأي العام!"، إن هذا يصنع
حالة جامدة من التعليم، فالطالب يخشى أن يخالف من فوقه، وتضحى سلطة المعلم سلطة
أبوية، تعكس ما لا يخالف المجتمع لكون المعلم يحرص على عدم مخالفة السائد.
سلطة المعلم التلقينية تلك التي تخبو أمامها ملكة
النقد عند الطالب، تذكر بسيطرة أرسطو قرونًا على حقول الفكر ومعرفة الطبيعة
والسياسة لمدة ألفي سنة، لقد كانوا ينظرون إليه بما عبر عنه اللقب الذي أطلقوه
عليه "المعلم الأول"، لقد كان هو المعلم، وكانوا هم الطلاب وعكَس موقفهم
تلك الطريقة الكلاسيكية في تعامل الطالب مع معلمه!، فقد كان العقل في القرون
الوسطى مرادفًا إلى درجة كبرى لأرسطو، وكانت وظيفة الدائرين في فلكه أن يشرحوا
عباراته، ومن يخالفه فهو مجنون، أو ذو حكمة مموهة "سفسطائي".
ومع ترسخ سلطته في الوعي الجمعي، صارت مخالفته مخالفة
للسائد، وهناك افتراض أولي عند كثيرين أن الأكثرية تضمن مجالًا أكبر للصواب،
وبالتالي فهي أفضل من عقل فرد، في حين أن هذا ليس دقيقًا بما يكفي! فكثيرًا ما
يندفع الناس إلى محاكاة السائد، بدافع التقليد، دون أن يكون لهم أي فهم حقيقي
للرأي الذي يقلدونه، ولما بدأ فرانسيس بيكون بنقد الفكر الأرسطي السائد قال
"ما أجدرنا أن نستعير قول فوشيون من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر، إذا ما
غمرك الدهماء بالتأييد والإعجاب فتحسس أخطاءَك".
ففي المجال المعرفي تكون كارثة تلك المداهنة لأمزجة
الناس لتلقي الإعجاب، فيعطل دوره في كشف الحقائق بقطع النظر عن مخالفتها للأمزجة،
فأين هو وقتها وصف المثقف وهو لا يقوّم اعوجاجًا، أو يصحح فكرة عندهم؟ يضحي
كالمطرب يغني حسب ما يريده الجمهور، لا يصنع فيهم أفكارًا بقدر كونه يحرك ما يوجد
فيهم.
ومن هنا يضحي خطاب هذا المثقف مرتعًا للمغالطات التي
يفترض نقدها دومًا لإظهار الحقيقة، فمن التلفيق المنهجي، إلى المغالطات الصريحة في
إقامة الحجج، وعلى سبيل المثال مغالطة "التجربة الذاتية"، وهي منتشرة جدًا
من قمع الابن والطالب.. إلى محاكاة السائد في الخطابات السياسية.
وصورة هذه الحجة أن يقول "لم أجرب هذا الشيء
لأعرفه"، فالتجربة وسيلة للمعرفة هذا صحيح، ولكنها ليست هي الوسيلة الوحيدة
لها، فيتقزم دوره في الشأن العام حينها إلى تخصصه الأكاديمي، ومهما حصل أي شيء
خارج تخصصه فهو لا يعنيه، ويذكر "إدوارد سعيد" مثالًا على هذه الحجة في
كتابه "صور المثقف"، فيذكر أن "نعوم تشومسكي" كان معارضًا
لحرب فيتنام، فرد عليه خصومه بأنه ليس متخصصًا بالسياسة، في حين أن من أقام حجة
سليمة لا يشترط أن يكون حاملًا للقب فيها أو ممارسًا للعمل السياسي إن كانت في
السياسة، فهذا شرط زائد على الحجة بذاتها.
حجة التجربة الذاتية منتشرة، ففي رفض النقد يقول
بعضهم "أهل مكة أدرى بشعابها" لإسكات أي ناقد للأمر من خارج البلد أو
الحزب، ويقال "كلامه صحيح" ولكن ليست معرفة مكة حكرًا على أهل مكة!،
فزيادة علم في المرتبة لا تنفي وجود علم أدنى منه بدرجة مع بقاء صحة وصفه بالعلم،
فليس المخبَر كالمعاين ولكن الخبر الصحيح حجة في المعرفة، ولو طردنا موضوع التجربة
الذاتية هذا إلى آخر نتائجه المنطقية لن يبقى إلا "أنا الوحيدة" بمعنى
ينفي المحتج أي شيء غير ما جربه هو وأدركه هو، وهي آخر نتائج هذه الفكرة، فالمرء
لا يكون واعيًا مثلًا بحمل أمه به، ولا بمخاض الولادة ولا يعني هذا بحال أنه لم
يولد من أم كونه لم يكن مدركًا لتلك التجربة أصلًا، بل أخبروه عنها وشاهد نظيرها
في غيره وقاس ما غاب على ما شهد، فهل يمكنه أن يقول "لم أولد من أم كوني لم
أجرب هذا؟!
أحد الظرفاء عبر عن هذه المغالطة بقوله "لا
يمكنني معرفة صدق آلام المخاض لأنني رجل، ولم أدخل هذا ولن أدخله في كل حياتي،
وبالتالي لعله غير صحيح!"
كانت حجة التجربة الذاتية تتكرر مرارًا تنقض لتبرر
رفض النقد، فرجل ينتقد طريقة إدارية معينة، يقال له "أنت لم يسبق لك أن كنت
مديرًا"، طالب ينتقد معلمه، يرد عليه الأخير "من المعلّم فينا؟!"
وقد تكون حجة الطالب هي الصحيحة، هنا يضحي لقب "معلم" ليس مرتبطًا
بالعلم والمعرفة التي تدور حول الأدلة، بل لقب سلطوي كألقاب الرتب العسكرية.
رجل ينتقد سلوك متزوج يقال له "أنت أعزب، لا
تعرف معنى الزواج" بل من الطرائف أن أحدهم قال يومًا "لن آخذ بفتاوى ابن
تيمية في الزواج كونه لم يتزوج"، سألته "إذن لن تأخذ فتاوى الطلاق من
المتزوج حتى يطلق!؟ وأخيرًا لن تسمع أي شيء عن الموت إلا من الأموات أنفسهم!".
ومثقف يسطو على جهد غيره على سبيل المثال، فينسب كلام
غيره إلى نفسه، فيقال في الاعتذار عنه "إنها أول مرة يكتب فيها كتابًا، أو
أول مرة يكتب كتابًا كبيرًا! فهل المؤلف لأول مرة على سبيل المثال يمكن أن يبرر له
أي سرقة بحجة أنه لم يجرب الكتابة من قبل؟!، هل سلوكه للمنهج السليم في الكتابة
مرهون بدخوله التجربة الذاتية بكتابة مؤلَّف ويكون سارقًا فيه؟
رجل ينتقد كاتبًا فيقال له "أنت لم تكتب مثله كتابًا" أو حجة تقول لا يمكن استلام السلطة ممن لم يجربها من قبل، وكأن من في السلطة ولد أزلًا فيها، نستطيع أن نتصور القياصرة وهم يقولون لأنفسهم "لا يمكن لغيرنا أن يقود البلاد، فهم لم يجربوا الأمر من قبل".
رجل ينتقد كاتبًا فيقال له "أنت لم تكتب مثله كتابًا" أو حجة تقول لا يمكن استلام السلطة ممن لم يجربها من قبل، وكأن من في السلطة ولد أزلًا فيها، نستطيع أن نتصور القياصرة وهم يقولون لأنفسهم "لا يمكن لغيرنا أن يقود البلاد، فهم لم يجربوا الأمر من قبل".
لا يشترط لفهم معنى النهيق أن يجربه أي إنسان بنفسه!،
ومهما بدت هذه واضحة إلى درجة التندر بمن يخالفها، فإنها نفسها تتكرر في كثير من
الخطابات بصور أعقد، حتى في النظريات المادية في المعرفة بل حتى في أقدمها كنظرية
"التشارفاكية" في الهند، لا يشترط لصحة المعرفة التجربة الذاتية، بل
يكفي الخبر الصحيح عن تجربة، ومن هنا يتراكم العلم، ويبني اللاحق على جهد السابق.