12.17.2017

هل المعتمد عند الحنابلة التفويض؟

11 دسمبر 2017

هل المعتمد عند الحنابلة التفويض؟

1

بداية ما هو التفويض؟ خلاصة أمره دون تطويل عبارة أن القائل به لا يدري معنى النص، ويفوض العلم إلى الله، ومن هذا التفويض جاءت التسمية، والصواب أن رد العلم إلى الله في المسألة خارجٌ عن الموضوع، فالله يعلم ما نعلمه وما نجهله، وهو أعلم منا في علمنا وجهلنا، والمفوض هو مجرد جاهل بالمعنى، أي لا يعلم معنى النص.
جاء في صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب سأل جمعًا من الصحابة عن آية فقال: فيم ترون هذه الآية نزلت؟ فقالوا: "الله أعلم"، فغضب عمر فقال: "قولوا نعلم أو لا نعلم".
وقد كان عمرُ مسددًا، فمن لا يعلم، ليقل إنه يجهل المعنى ليطلبه عند من علمه، لا أنه يكتفي بقوله الله أعلم!  فالسؤال عن علم المرء نفسه، لا علم الله.
نأتي لمسألة التفويض في مذهب الحنابلة.
فقد زعم المجيب بأن المعتمد في مذهب الحنابلة التفويض، ومن العجب أنه جعل من بين من سماهم في تحقيق المعتمد الطوفي، وهو سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الملقب بـ(نجم الدين)، وهو الذي قال عنه ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة إنه "كان منحرفًا في الاعتقاد عن السنة، حتى إنه قال عن نفسه:
حنبليٌّ رافضيٌ أشعريٌّ *** ظاهريٌّ هذه إحدى الكُبَر
ووجد له في الرفض قصائد"!
فهل مثل الطوفي يذكر في تحقيق المعتمد في مذهب أحمد؟!

2

وهذا الكاتب يناقض نفسه بنفسه، فيقول بأن "الأقوال ينبغي أن تقرر كما هي عند أصحابها"، والمذهب كله ينتسب إلى أحمد بن حنبل، فكان أول ما يفترض به أن يقرر ما قاله أحمد نفسه، قبل الذهاب إلى المتأخرين والمتوسطين، ولنأخذ مسألة واضحة تكاثرت فيها نصوص أحمد بن حنبل، وهي مسألة كلام الله.
فهل قال أحمد كلام الله وسكت وقال أفوض الأمر إلى الله؟
بل قال كلام الله غير مخلوق، ولم يرض سكوت من سكت عن التصريح بأنه غير مخلوق، وهم الواقفة، أي الذين توقفوا في المسألة، ولم يكتفِ بهذا حتى ألحقهم بالجهمية.
ثم هل سكت أحمد عن كلام الله؟ فقال مثلًا، كلام الله غير مخلوق وأفوض معنى الكلام إلى الله، بما يليق به؟
بل صرح بإثبات الحرف والمعنى وهو ما يتناقض تماما مع المذهب الأشعري.
لذا حتى من سلك التأويل من الحنابلة مثل ابن عقيل وابن الجوزي، لم يقدروا على تجاوز نصوص الإمام في هذه المسألة تحديدًا.
وتجد لابن عقيل رسالة مفردة في الرد على الاشعرية شديدة العبارة.
على أي حال، هذا مناقض تماما للتفويض في صفة الكلام، بل اثبات للحرف والمعنى، وهو إثبات لمعنى الكلام كما قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد، أي صوت وحرف ومعنى.
ومن هنا يبرز اسم ابن قدامة، فيمن ذكرهم، ابن قدامة، لم يتسق في تقرير مقالة أحمد في مسألة الصفات، فتارة يصرح بالتفويض، ولكنه هو نفسه يصرح أحيانًا بالإثبات، وعلى سبيل المثال، لابن قدامة رسالة في إثبات الحرف، اسمها (الصراط المستقيم في إثبات الحرف القديم)، هذه الرسالة تبين أن نسبة التفويض بالعموم إلى ابن قدامة غلط، هذا أولًا، ثانيًّا، بقطع النظر أين أخطأ ابن قدامة، لا ينبغي أن يحسب كل حرف منه على مذهب أحمد، فكيف بتحقيق مقالة رأس المذهب نفسه.

3

ولذا لا يمكن لمفوض أن يتسق في مذهب أحمد، بل سيضطر أن يصرح بالإثبات كما في مسألة الكلام معناه معلوم، كما قرره أحمد بن حنبل.
نأتي لتاريخ التفويض فلسفيًّا، فهو متأخر على مذهب التأويل في الواقع، فقد خرج من رحم التأويل، ولما تعرض له الغزالي، جعله حلًا لمشكلة دخول العوام في علم الكلام، فالعامي لم يكن يفهم معانٍ مثل الجوهر والعرض ونحو ذلك، بعد أن جعلها المتكلمون في أصول الدين، فقال له بأنه يكفي منه تفويض المعاني، فالتفويض هو موقف متأخر عن الموقف الذي حاربه أحمد نفسه.
فالتفويض كما سبق هو اللا موقف، واللا أدرية، وهو دأب العوام، فهل رأس مذهب الحنابلة كان بمنزلة العوام!؟ على فرض التسليم بصحته!
نأتي إلى طريقته في تقرير المعتمد في المذهب، فقد قال بأن الأكثر عليه، وقد سبق أن هذه دعوى، فمن وقع في تفويض صفة، سيضطر إلى إثبات غيرها فيما صرح فيه أحمد بالإثبات كالكلام، وليس القول بأنه فوض أولى من نسبة الإثبات إليه، وهو لا يمكنه إلا أن يثبت نصوص إمامه الذي ينتسب إليه.
فظهر أن قوله (الأكثر) محل نظر، حيث إن المنتسب إلى الحنبلية، مهما أول أو فوض، سيظل مختلفًا عن مفوض أشعري أو مؤول أشعري، والخلاف بينهما شديد، وأظهر المسائل في هذا مسألة الكلام، لكثرة كلام أحمد فيها، والأصل واحد، والقواعد والقياس والتخريج على قوله، إن اعتمد فيه الطريقة التي في الفروع فلن تكون لا في التأويل ولا التفويض للمعنى، وبهذا لا يصح أن ينسب إلى المذهب أن المعتمد فيه التفويض، فذا مناقض لنصوص الإمام وقواعده وقياسه وأصوله.

4


ونصوص الإمام لتكاثرها، بسبب وقوفه في المحنة، منعت المذهب أن يبتلع من معتقد غير ما قاله صاحبه، بخلاف العديد من المذاهب، التي لم تكن نصوص أصحابها كثيرة مثله في هذا الباب، ولذا تجد المخالف لهم يذكر القلة التي وافقته لا الكثرة التي خالفته، فيقول قال فضلاء الحنابلة، مستثنيًا لهم من مجموع المذهب، مادحًا لهم وبمفهوم المخالفة يقلل من غيرهم.
وهذا مذهب أبي حنيفة اشتهر المنتسبون إليه من الجهمية والمعتزلة، فهل كثرتهم في داخل المذهب، وتحقيقهم لشيء من الفروع، يجعل أبا حنيفة محسوبًا على الاعتزال والتجهم، بمحض الكثرة والقلة؟ أم يقال العبرة بما نطق به، وما يتخرج على أقواله.
نأتي لبعض ما استدل به الناسبون لأحمد إلى التفويض، فمن ذلك قوله أمروها كما جاءت ونحو ذلك مما نطق به السلف.
فهذه العبارات تفهم في إطارها، ولعل أقرب الكتب التي استعملت هذا الأسلوب رسالة الشافعي، ويقول فيها في عدة مواطن: استغني فيه بالتنزيل عن التأويل، أو التفسير، فهم يستغنون بالتنزيل لوضوحه لا لتفويضه! وعدم بيانه، وإلا فالمبهم ينبغي طلب معناه، إن لم يكن منه فمن غيره، كما هي أبجديات الأصول، فمقالة تحقق خطأ الاستدلال بها، لا يفترض أن تحسب على أنها معتمدة في المذهب.
ومن ذلك ما رووه عن طريق حنبل بن إسحق بعدم إثبات المعنى عن أحمد، فهو لا يصح لانفراد حنبل بالنقل عنه، وهو ضعيف فيما ينفرد به عن أحمد.
خلاصة الأمر، أن نسبة التفويض إلى مذهب الحنابلة، غير صحيح، ومجازفة، ولا تحقيق فيها.
والصواب نصًا من الإمام، وقواعد وأصولًا وقياسًا وتخريجًا، أنه مذهب مع الإثبات.
مودتي.

هناك تعليق واحد: