8.15.2017

كتبوا كثيرًا عن العلمانية.. ولكن ماذا عن القابلية لها ؟

L’image contient peut-être : eau 

كتبوا كثيرًا عن العلمانية.. ولكن ماذا عن القابلية لها ؟

كتبه: يوسف سمرين

1

أهم ما يحجب النقد السوي، عدم رؤية الواقع كما هو، إن لم تكن تر الواقع نفسه فأي شيء ستعالج ؟، أنت تهندسه كما تشاء، وبالتالي ستبتكر مشاكله، التي تلفها بمسحة أسطورية، تضخمها، أو تقزمها وتتعامى عنها حسب الرغبة، كثيرون كتبوا عن العلمانية، إنها فصل الدين عن الدولة، إن المعنى الحرفي لها هي اللا دينية، إن من ابتكرها أعداء الله، ملحدون إلخ..
لكن قليلًا، لماذا انتشرت العلمانية ؟، أليس هذا السؤال الأهم، لماذا اجتاحت بلاد المسلمين، ولمَ لمْ تجتح أنت أوروبا بأفكارك  ومعتقداتك؟ أليس هذا السؤال يفترض أن يحلل، وتبذل فيه بعض الجهود لمعرفة تلك القابلية التي استشرت، لمحة سريعة عن الماضي - الذي ليس بالبعيد جدًا- تجد مثلًا ما جاء في كتاب الموضوعات الكبرى عند النقل عن السيوطي قوله في شرح حديث اختلاف امتي رحمه وهو حديث لا يصح: ( المراد اختلافهم في الأحكام، وقيل المراد اختلافهم في الحرف والصنائع... ) إلخ.
قال محققه: في المطبوعة: المقصد. أقول: وقد لفت نظري أنه كلما وردت كلمة (المراد) في هذا الكتاب تحولت في المطبوعة إلى (المقصد) فاستغربت ذلك في الكتاب كله، حتى وقفت على تعليل ذلك في (مذكرات محمد كرد علي ) 1232/4 فقد ذكر أنه في أواخر الدولة العثمانية - أي في وقت طبع الكتاب تلك الطبعة - حظر على الناس إطلاق بعض الأسماء على أبنائهم، ومن هذه الأسماء المحظورة: (مراد) لأن السلطان القائم خلع أخاه مرادا واتهمه بالجنون فلا يحب أن يسمع اسمه، وقد أوجبت الدولة على من سمى ولده بهذا الاسم أن يقلبه. ويبدو أن هذا هو السبب في هذا التحويل لكلمة (مراد)."
(الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، المعروف بالموضوعات الكبرى، لعلي بن محمد بن سلطان (علي قاري)، حققه وعلق عليه: محمد بن لطفي الصباغ، الطبعة الثانية 1406 هـ - 1986 م، مع زيادات، المكتب الإسلامي، ص 110.)!
فتخيل الأمر، أن يأتي شخص باسم (خليفة) ويصل به الأمر لمثل هذا، ما تحفظه من محفوظات، أن الرقابة من واجب الدولة الإسلامية، وأنها تقرر ما يجوز، وما لا يجوز، هذا الكلام نظري وهو إنشائي في مثل هذه الحالة، هنا الدولة وحولها مشايخها الذين يدعون للخليفة بأن يطيل الله بقاءه، وأن ينصره على أعدائه، تتدخل في حذف اسم لأن الخليفة لا يعجبه هذا الكلام لعقدة نفسية من الأخ مراد.
لم يكن الأمر بعيدًا جدًا عن أوروبا كما حاول إعادة إنتاج التاريخ الكثير من الدعاة في القرن 20، يطلعنا الباحث موفق بني مرجة في رسالته للماجستير (صحوة الرجل المريض: السلطان عبد الحميد الثاني ومشروع الجامعة الإسلامية)، وهو محامٍ شرس عن السلطان عبد الحميد، ويظهر أن ذلك من تأثره من حزب التحرير، لكن رغم كل دفاعه المستميت عنه، لما وصل إلى عقيدة السلطان عبد الحميد، والتي شرحها على عجل، قال بأن السلطان كان صوفيّا إشراقيا يعتقد أنه يتصل بالعقل الفعّال، وأنه يسير أمور الدولة عن طريقه، يعني الموضوع: أن الذي يحكمك هو الله نفسه، وليس الكائن البشري المسمى عبد الحميد.
واحدة من الأمور التي دفعت أتاتورك إلى الحقد على منظومة الخلافة، وفق شهادة ناقم عليه ومحتف جدًا بالخلفاء العثمانيين، وانتشرت جدًا شهادته بين التيارات الإسلامية في القرن 20 بعنوان (الرجل الصنم) يذكر أن أتاتورك قابل الخليفة وعرض عليه أن يدعم حركته، ولكن الخليفة أغمض عينيه وبدأ يتمتم كالثعلب كما يصفه أتاتورك، وقال لم يؤذن له، فالعقل الفعال يظهر أنه لم يأذن له بذلك، وانفجر الكاتب يدافع عن الخليفة، ويقول انظر كيف يصفه بالثعلب !

2

كان نظام الخلافة في الدولة العثمانية يعطي صلاحيات واسعة للخليفة، وكان حوله شيوخ يدافعون بحماس عن شرعية حكمه، أما عن الأموال، فيطلعنا السلطان عبد الحميد في مذكراته متوجعًا، فيقول:
"
سمعت أنهم نهبوا - بعد خلعي عن العرش - الأشياء الأخرى من خزانة قصر يلديز... على كل حال، عندما وصلت إلى سلانيك لم يكن لي من ثروة قط غير نقودي في بنوك سويسرا وبرلين وبعض الأسهم والتحويلات والسندات مع بعض قطع المجوهرات التي كانت معي."
(مذكرات السلطان عبد الحميد، ص 221 ).
فلم يكن معه سوى نقوده في سويسرا وبرلين، وأسهم وسندات ومجوهرات، لكن للأسف الباقي تم نهبه.
أما المرجعيات الدينية فقد كان التصوف مستشريّا، ولك أن تطالع كتابا في آداب التصوف، لتعرف مبلغ سلطة الشيخ على مريديه، فيكونون معه كالميت في يد المغسل، ولا يخفون عنه شيئًا ضرورة توجيههم، كان ارتباطه بهم وثيقًا، ويجري كما يحصل اليوم إلى حد بعيد في الاستفتاءات إطلاعه على تفاصيل حياتهم الخاصة، تلك الطرق يقول السلطان عبد الحميد في وظيفتها:
" جدي السلطان محمود الثاني وسع دائرة مخابراته بإضافة الدراويش الرحل إليها. كان هذا الموقف عندما ارتقيت العرش، وعلى ذلك استمر "
(مذكرات السلطان عبد الحميد، ص 158 ).
فقد كان يجري ضم (الدراويش) إلى دائرة المخابرات، وهذا يحكم القبضة المعلوماتية عن طريق المعلومات الطوعية التي يقدمها المريدون المهووسون بهم، كانت السلطة محكمة جدًا على الشعب، والقرارات التي يتخذها الخليفة وفقًا لصلاحياته تطال نتائجها الجميع، وفي كتاب ( الحرب العالمية الأولى، لعمر الديراوي) يطلعنا الكاتب على شيء من تفاصيل دخول العثمانيين في الحرب حليفة لألمانيا، بأن 70 ألفًا من الجنود قد ماتوا من البرد في إحدى الوقائع، حيث لم يرسل معهم أغطية تقيهم البرد !، تلك الحرب التي خسرت فيها ألمانيا، وكانت نتائجها كارثية على الخلافة العثمانية، وعلى المناطق الخاضعة لها، بما فيها فلسطين، التي وقعت تحت الانتداب البريطاني، وأعقبه قيام دولة إسرائيل في 1948.
حكم عبد الحميد 30 سنة، بصلاحيات لم تقيدها إلا القيود التي توالت آخر حياته وانتهت بعزله، وليزول نظام حكم العثمانيين فيما بعد تاركا شعوبًا خلفه بنسبية أمية هائلة، ولا تملك الكثير لتعول به نفسها، تم اختزال الصورة عند كثيرين بأن الأمر دبر عليه بمؤامرة كونية من اليهود، ومنهم يهود الدونمة الذين انتقلوا من الأندلس إلى تركيا بعد سقوط الأندلس، ويخيطون خيوط تلك المؤامرة عبر قرون متوالية، حتى تم إسقاط ذلك النظام !، والكتاب الذي كتب (الرجل الصنم) يصور أتاتورك بأنه ابن عاهرة، بل ويبدأ كتابه بفحص تفاصيل جمجمة أتاتورك ليصل إلى أنه من عرق سلافي، ويرجح أن أصله يهودي ونحو هذا، هل بهذا الأمر تحل المسألة ؟!..
أم إن هناك العديد من الإشكالات والأسئلة التي لا تزال مطروحة إلى اليوم.. حول لماذا انتشرت العلمانية ؟

3

إن نظرية المؤامرة هي الأكثر قربًا من عقل يريد أن ينفي عن نفسه أية مسؤولية لأي خطأ كان، فهو لم يقع بالخطأ إنهم أفشلوه، إنه لم يسلك سبلًا غير سوية، إنما كان الريح عاتيًا، ونحو هذا، بالعودة إلى أتاتورك فإنه قبل أن ينتقل إلى كلية عسكرية كان قد درس في الكتاتيب، دراسته فيها جعلته يخرج منها بصورة ذهنية ونفسية عن الشيخ المدرس، فقد جلده الشيخ قبل أن يترك الكتاتيب، إن ماضي الكتاتيب يستحق أن يتم تسليط الضوء عليه قليلًا، سيما وأن العديد من الإسلاميين دعوا إلى عودتها في القرن 20، كما فعل عصام البرقاوي (أبو محمد المقدسي) في كتاب: (إعداد القادة الفوارس بهجر فساد المدارس)، ولتصوير ما وقع في تلك الكتاتيب، تجد طه حسين تعرض لذكر الشيخ الذي كان يدرسه القرآن فيها، بأنه يدرسه ليتلقى شيئًا من عطايا العائلة، كان تعامل الشيخ مع الطلاب حسب وضع عائلاتهم المادية، فضلًا عن الكذب والخداع الذي بقي في ذهن طه حسين عن الشيخ المدرس كما سطره في مذكراته الموسومة بـ(الأيام)، فقد كان يحلف للأب أن ابنه حفظ السورة الفلانية، علمًا أنه لم يفعل، ولم يدرسه إياها، وكان يحلف بالطلاق كاذبًا، من الشهادات الأخرى التي انعكست على نفسية كاتبها كذلك الشاعر المصري الشعبي محمد فؤاد نجم، يقول في مذكراته عن (الشيخ) الذي كان يدرسهم في الكتاتيب واسمه (أبو عطية) بلغة نجم العامية:
" كان ابن الزنا مقسم قعدتنا تقسيم فئوي " وهذا الاقتباس يظهر أي مخلفات أبقاها ذلك الشيخ في نفس الرجل، كان يقسمهم حسب ما يدفعه أهلهم الذي يدفع أكثر إلى اليمين، ثم الوسط، ثم الشمال، والأولون لا يضربهم، ويودعهم بسلامة، الوسط يضربهم في الحالات القصوى، وكان يسمون أنفسهم بفرق حسب ما يدفعه أهلهم، فرقة قمح، فرقة ذرة، فرقة شعير وهم الفقراء الذين كان نجم منهم فقد:
"
كان عنده كنز من أسماء التدليل اللي كان بيخصنا فيها: يا ولاد الكلب... يا بهايم.. يا زواني يا أولاد الزواني " !.
ويتابع قائلًا:
" يعني مثلًا كنا نبقى قاعدين في أمان الله، وبنحفظ في كلام ربنا العزيز، ونفاجأ بالشومة النازلة على دماغ أو وش أو درع أقرب عيل من فرقة الشعير مكوماه مطرحه !
وبعدين نكتشف إن ده مجرد هزار، وسيدنا بيضحك، ويقول للضحية:
-
أمك قالت لأبوك إيه ليلة الجمعة يا واد.. آه يا ابن المرة اللي ما بتقولش لأ.
ويروح راقعه شومة تانية وهو متكوم على سبيل الدعابة ويروح ضاحك وباصص لنا، وتضحك فرقة القمح وفرقة الدرة، وبعض فرقة الشعير، فينشكح سيدنا ويتهيأله إنه كده يبقى دم أمه خفيف !
ويا ويل العيل اللي يظبطه سيدنا متلبس بعدم الضحك."
(الفاجومي: مذكرات أحمد فؤاد نجم، تقديم: صلاح عيسى، دار سفنكس للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 1993 م، ص 64)
هذه الصورة القاتمة لوضع الكتاتيب التي يعطى بها الشيخ صلاحيات واسعة، ولا يقبل الأهل شكاوى أبنائهم عليه، فكيف يعترض الطفل على (مولانا) محفظ القرآن، وشيخ البلدة، بل كان هذا السلوك من الأهل - وهم الذين تنتشر بينهم الأمية - يعزز من تصابي هؤلاء الشيوخ، ويزيد من طغيانهم، ويؤجل الانتقام منهم إلى حين. 

4

في الوقت الذي كان التقدم الأوربي يتوهج، فإن المنطقة العربية كانت خاضعة لمشايخ الطرق إلى حد بعيد، لمحة سريعة عن الطالب وارتباطه بشيخه بنفس صوفي كان قد انتشر جدًا وقتها، بعبارة الشعراني:
"واعلم يا أخي أن الفقير ما دام تحت رعاية شيخه، ملاحظا له، فهو محفوظ من الشيطان، لارتباط ذلك الفقير بشيخه، وارتباط شيخه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وارتباط النبي بحضرة الله عز وجل، فلا يجد الشيطان له مسلكا يدخل منه إلى قلب الفقير."
(تطهير أهل الزوايا من خبائث الطوايا، عبد الوهاب الشعراني، تحقيق: أحمد فريد المزيدي، دار الكرز للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى: 2012، ص 83).
فإذا كان هذا الشيخ إضافة لهذا الارتباط، مرتبطًا بالدولة نفسها، فإن الطرق كانت تشكل جهازًا فريدًا كما سبق في المعلومات، وأيضًا في السيطرة على المناطق بجعلها تابعة للدولة، أما عن طبيعة العقل الذي كان يتلقى ما يسمى بالعلم، فتجد شيئًا من ذلك في فوائد ودرر الشيخ علي الخواص، الذي كان لا يحسن القراءة ولا الكتابة !، ولكن بما أنه من صنف ما سمي بـ (أولياء الله) فقد كان له الأولوية في تعليم التلاميذ، والرجل يظهر مدى علمه بعبارة الشعراني !:
" سيدي علي الخواص البرلسي رحمه الله تعالى، من كراماته رضي الله عنه أنه كان يسمى بين الأولياء نسابة، لكونه يعرف نسب بني آدم، وجميع الحيوانات إلى آبائها الأول التي لم يتقدمها أب."
(لطائف المنن والأخلاق في وجوب التحدث بنعمة الله على الإطلاق، عبد الوهاب الشراني، اعتنى به: أحمد عزو عناية، دار التقوى، دمشق - سوريا، الطبعة الأولى: 2004، ص 55).
ويتفاخر الشعراني بتلمذته على ذلك الأمّي، وتسجيل فوائده، ويطلعنا على عينة من تلك الحوارات التي كانت تدور بين التلميذ وشيخه:
" سألته رضي الله عنه: عن التوحيد ما هو ؟ فقال: عدم !. قلت: ووجود ؟ قال: ووجود، فقلت: فإذن العدم وجود، والوجود عدم، فقال: نعم، فقلت: فقد انعدم العدم لأنه عدم، والعدم لا يعبر عنه، ولم يبق إلا الوجود كما كان وهو الآن على ما كان على ما عليه كان، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم."
(درر الغواص على فتاوى سيدي علي الخواص، عبد الوهاب الشعراني، المكتبة الأزهرية للتراث، ص 33.)
هذا الأمي الذي انتصب لتعليم الناس، باسم أنه ولي، كان لأمثاله مكانة هائلة على الناس، وكانت الطرق تسوق لنفسها بطريقة سياسية، فتوهم أتباعها بأن من كرامات بعض أولياء الله " انه كان يعرف مدة الولاة، ومتى يولى أحدهم، ومتى يعزل في سائر أقطار الأرض" !
(لطائف المنن، ص 57).
وكما تجد عند الشيعة الإمامية "علي خير البشر ومن أبى فقد كفر " !، فقد كان سلاح التكفير ماضيًا، ومسلولًا على من ينتقص من هؤلاء، بل حتى من رد دعوتهم !، يقول الشعراني:
" من رد دعوة ولي فقد رد دعوة نبي وذلك كفر "!.
(لطائف المنن، ص 584.)
هؤلاء الأولياء، كانوا يوصون أتباعهم بوصايا عديدة، ومنها سياسية، ومن ذلك، يقول الشعراني:
"
كان سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه يقول لأصحابه: 
"
من أدرك منكم النصف الثاني من القرن العاشر فلا يشدد في إزالة منكرات الولاة، ﻷن في ذلك الزمان تترادف علامات الساعة التي أخبر عنها الشارع، ومن شدد في منع وقوعها أصلا فكأنه ساع في خلف ما وعد به الشارع، ولا يخفى ما فيه."
(لطائف المنن، ص 189.)

5

في الحديث عن القابلية للعلمانية، كان التصوف يتحالف مع الفقهاء أحيانًا، وكان باسم الفقه يجري تسويغ السلطة السياسية إلى حد بعيد، وتميل السلطة السياسية إلى قولٍ فقهي معين، باعتبار فائدته عليها، ومن هنا امتعض ابن القيم من التحاكم إلى السلطة السياسية في ترجيح الحجج، فقال في نونيته المسماة (الكافية الشافية ؛ في الانتصار للفرقة الناجية):
إن كنتم أنتم فحولًا فابرزوا *** ودعوا الشكاوي حيلة النسوان 
واذا اشتكيتم فاجعلوا الشكوى إلى *** الوحيين لا القاضي ولا السلطان
وفي رواية تطلعنا على شيء من تدخل السلطة السياسية في شأن الترجيح الفقهي، روي "عن أبي يوسف قال: دعا المنصور أبا حنيفة، فقال الربيع حاجب المنصور، وكان يعادي أبا حنيفة:
يا أمير المؤمنين، هذا أبو حنيفة يخالف جدّك ؛ كان عبدالله بن عباس يقول: " إذا حلف على اليمين، ثم استثنى بعد ذلك بيوم أو يومين جاز الاستثناء"، وقال أبو حنيفة: " لا يجوز الاستثناء إلا متصلًا باليمين !.
فقال أبو حنيفة:" يا أمير المؤمنين، إن الربيع يزعم أن ليس لك في رقاب جندك بيعة !!.
قال: وكيف؟ قال: يحلفون لك ثم يرجعون الى منازلهم فيستثنون فتبطل أيمانهم، فضحك المنصور وقال: يا ربيع لا تعرض لأبي حنيفة."
(مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، تقديم: أبي الوفاء الأفغاني، تحقيق وتعليق: محمد زاهد الكوثري،، لجنة إحياء التراث النعمانية، حيد آباد الدكن الهند، ص 47 ).
بقطع النظر عن صحة الواقعة بعينها التي اعتبرت من (المناقب) !، فهنا ترجحت المسألة بكونها ستعود على بيعة الناس للخليفة بالنقض، وهذا ما لا ترضاه السلطة السياسية، ومن هنا يبرز سؤال: ما الذي ضمنه الفقه الحنفي للسلطة السياسية حتى يسود ؟، فالدولة العثمانية، ظلت على المذهب الحنفي، فما الذي حققه للخليفة ذلك الفقه، بطريقة مختلفة عن باقي المذاهب الأخرى ؟ 
واحدة من أهم المسائل التي ضمنها الفقه الحنفي للسلطة السياسية، هي أن الحد لا يقام على الإمام ! 
فقد "ذهب الشافعية إلى أنه يقام الحد كما يقام على سائر الناس لعموم الأدلة... وذهب الحنفية إلى أنه لا يقام عليه الحد، لأن الحد حق لله تعالى، والإمام نفسه هو المكلف بإقامته، ولا يمكن أن يقيمه على نفسه، لأن إقامته تستلزم الخزي والنكال، ولا يفعل أحد ذلك بنفسه، بخلاف سائر العباد."
(الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - الكويت، طباعة: ذات السلاسل - الكويت، الطبعة الثانية: 1406 هـ - 1986 م، ج 6، ص 231.)
ولاحظ القول: ((بخلاف سائر العباد )) !، إن تقسيم الناس إلى نبلاء وعامة ظل إلى القرن 21 في كتابات العديد من الإسلاميين، فيكتب محمد أحمد الراشد وهو من الأقلام المؤثرة في صياغة المخيلة عند كثير من الإسلاميين، وهو صاحب كتاب: العوائق، والرقائق، والمسار، وغيرها من الكتب:
" بعض الدعاة يجوزون لدعاة جدد أن يطيلوا القول في أمرائهم، وجيل القدماء بحجة أن الدعاة سواسية ويروون آية: (إلا من ظلم) وليس ذلك بصواب، بل الواجب أن نصون مكانة نبلاء الدعوة، وأن نلزم صغار الدعاة ومتأخريهم خفض الصوت وجمال اللفظ، حتى ولو ادعوا حصول ظلم عليهم، وعلى أمير الدعوة أن ينصر أعوانه ووزراءه، فإن الفقهاء معه في هذا، ولا ينبغي أن يجعلهم لعبة في أيدي المعترضين بحجة المساواة... ولعل مشية واحدة بشمس أو زمهرير مشاها القديم في مصالح الدعوة تعدل تاريخ الطارئ بأجمعه."
( أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي، نظريات فقه الدعوة الإسلامية، محمد أحمد الراشد، دار المحراب. ج 3، ص 90 )
كانت الطبقية، والتراتبية، واعتبار بشر غير سائر العباد، تواجه شعارات الثورة الفرنسية المنادية: حرية، مساواة، إخاء.. كم كانت هناك قابلية لتلقي تلك الشعارات ؟، وكم كان الأمر مهيئًا ولا يزال !..

6

واحدة من الأمور التي يمكن ملاحظتها حتى ضربت أمواج العلمانية ساحل المنطقة الإسلامية، أن المناهج التعليمية عجت بصعوبة العبارات حد التعمية أحيانًا في كثير من المنظومات والمتون المستغلقة، بشكل طردي مع زيادة الأمية وعدم انتشار المعارف بين الناس،، واحدة من الحجج التي كانت تقدّم من الكتاب أنفسهم حجب الكتاب عمن ليس أهلًا له، وهو تقليد متوارث له جذور أفلاطونية، وكان علامة مميزة لكتابات ابن سينا.
كانت المناهج تدور إلى حد بعيد في فلك أرسطو، في وقت كانت أوروبة قد تخلصت من عبء المدرسية، وأخطاء المنطق الأرسطي، عبر نقّادٍ كفرانسيس بيكون، كان المنطق الأرسطي يدرّس ويشرح وينظم في العديد من المناطق الإسلامية، وظل هو السائد حتى الوقت الحالي فيها فيدرس في الحوزات الشيعية (منطق المظفر) وهو نسخة تدور في فلك أرسطو في المنطق، وقد زار عبد الرحمن بدوي إيران، واطلع على نوعية المناهج الفلسفية هناك، وضرب مثالًا بالطباطبائي، وقال: رغم اطلاعه الكبير على الفلسفة، إلا أنه لم يخرج عن أرسطو.
ليست المشكلة متوقفة فقط مع دوران تلك المناهج في فلك أرسطو فحسب، بل بإعطائه المسحة الدينية التي تمنع من نقده بحرية، فلا زال الأكثر دفاعًا عن منطق أرسطو هم متدينون بنوا منظوماتهم الكلامية عليه، وكان الغزالي في كتابه (المستصفى) قد أوجب تعلم المنطق الأرسطي وسماه في كتاب آخر بـ (القسطاس المستقيم)، ومن هنا فقد صار له أهميته العظمى في كثير من المدارس الدينية، كما كان المدرسيون في أوروبة، وهذا يجعل من الأفكار الفلسفية ليست جهدًا بشريّا، بل يعطيه مسحة قداسة، تمنع من النقد وتقدم الدراسات الفلسفية.
كان هذا كله يقف أمام التقدم الفلسفي، والمعرفي، والفني، إن العلمانية كانت تمتلك أدوات كثيرة، وهي تقتحم، على سبيل المثال: فن الرواية لا يمكن أن تختزل بأنها مجرد خيال !، ولا يزال موقف بعض الإسلاميين إلى اليوم إلى أنها (كذب) ولا يجوز كتابتها !، واستسخاف قراءتها، وبشكل عام كان عندهم ارتباط شرطي بين الرواية والكذب، وصلح عنوان لكتاب للسيوطي وهو (تحذير الخواص من أكاذيب القصاص) كعنوان لموقفهم هذا، مع الفارق بين المضامين، في الواقع كانت الرواية هي مخاطبة للشريحة الواسعة من الناس، تلك التي تستغلق عليها المتون والحواشي، وتصنع لهم آراءهم عن كثير من القضايا، الاجتماعية، السياسية، الفكرية، وحتى الدينية !، الرواية تبسط مضامين فلسفية، وفكرية، وتزرع في الناس مذاقًا عامًا، تعبر عن مطالبهم، وتقدم شيئًا من رؤية الكاتب للأمور.
والحديث عنها ليس بمعزل عما يمكن أن يتفرع عنها، أو يتحالف معها ؛ المسرح، والسينما، والموسيقى، وفنون كثيرة مختلفة، وما تعطيه من قدرة على مخاطبة الناس بلغتهم، وبساطتهم، إنها تعطيهم نماذج ومثلًا عليا لهم، وتعكس ما فيهم، كان هذا على الجانب الثقافي، ولكن الجانب المادي كان يجتاح أيضًا !، فقد رأوا إنجازات مهولة، وعلومًا لم تخطر لهم على بال..

7

من التاريخ البديل الذي ساهمت في تشكيلة الكثير من الخطابات الإسلامية التالية لسقوط العثمانيين، تصوير الأمر وكأن السياسيين الأوائل كانوا على قدر هائل من التحاكم إلى الفقهاء في سياساتهم، والواقع أن جذور الخلاف بين السياسيين والفقهاء قديمة، يقول ابن تيمية:
لما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلدهم القضاء من تقلدهم من فقهاء العراق، ولم يكن معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة: احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكمًا أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة.
والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال، وتستباح الحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى وتحري العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك."
(مجموع فتاوى أحمد بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم، وساعده ابنه محمد، طبع بأمر: فهد بن عبد العزيز ال سعود، طبع في المدينة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، تحت إشراف: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 1425 هـ - 2004 م، ج 20، ص 392 393.)
هذا يبين أن السياسة كان لها أهلها و أحكامها - في الواقع - و يتم تحييد الفقهاء عنها، ولك أن تتخيل تطاول الأزمان على هذا، حتى جاءت صدمة الحداثة.
في التراث الإسلامي، نجد فرقًا قامت بالمناقشة في خلق الله لكل شيء، لتحمّل الإنسان مسؤولية أفعاله، كالمعتزلة الذين حاربوا بشكل شرس الجبرية التي حكمت تصورات كثيرين، باسم الرضا بالقدر، وأن الله خالق كل شيء، حتى بقيت الرواسب في الأشعرية، تجد البيجوري مثلًا يقول بعد كلام طويل في كسب الأشعري:
"وبالجملة فليس للعبد تأثير ما، فهو مجبور باطنًا مختار ظاهرًا"
ثم ذكر إشكالًا فقال:
" "فإن قيل: إذا كان مجبورًا باطنًا فلا معنى للاختيار الظاهري، لأن الله قد علم وقوع الفعل ولا بد وخلق في العبد القدرة عليه
"
وأجيب بأنه تعالى لا يسأل عما يفعل "
(حاشية البيجوري على جوهرة التوحيد، حققه وعلق عليه: علي جمعة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى: 1422 هـ - 2002 م، ص 176.)
فلك أن تتصور هذه المقالات وهي تتحالف مع مقالات المتصوفين الذين يأمرون بتقليل الإنكار على الولاة حتى لا تتصادم مع قيام الساعة ونحو ذلك، في السابق كان هناك معتزلة ينازعون في أن الله خلق أفعال الإنسان، لكنهم يسلمون أنه خلق الكون وأنزل الكتب، لكن هذه المرة، كان الأمر قد اتسع، فهناك فلسفات كبرى تناقش في وجود الله نفسه ! وتنادي بالتغيير، وهي ثورية على الواقع القائم، وتواجهها مقالات جبرية، وتصوف، وفقهاء لا شأن لهم في السياسة، همّهم شرح المتون، وتدريس العلوم، وتولي القضاء والإفتاء...

8

كانت العلمنة مرتبطة بالانبهار بالتقدم الأوروبي في العلوم، وكانت العلوم في أوروبة قد شقت طريقها بشكل مخالف للكنيسة وآرائها، من كوبرنيقوس، جاليليو، إلى غيرهم ممن كان لهم رؤى مخالفة للأطروحات المعتمدة في الكنيسة المرتبطة بشكل كبير بمقررات أرسطو، ولما بدأت الاستفادة من الأوربيين، بدأت تفتح مدارس غير تلك الدينية، وبدأت هالات المرجعيات الناس الدينية يضعف أثرها على الناس ؛ فقد كان (علماء الشرع، الشيوخ، الأولياء) هم المصدر الأساسي للـ (العلم) إلى درجة كبرى، الآن بدأ الطلاب يدرسون علومًا، خارج إطار الكتاتيب، والمقررات الدراسية المفروضة، وقد تميزت طريقة درسهم بالسهولة عليهم، وتقليل المحفوظات إلى الحد الأدنى، بخلاف الكتاتيب التي كانت تعتمد الحفظ بشكل كبير، فيحفظون القرآن، وألفية ابن مالك، متنا فقهيًا، منظومة في علم الحديث، في الآداب، في التجويد وهكذا.
واحدة من الأمور الملاحظة كانت اصطدام المؤسسات الدينية ورموزها بـ (العلوم) التي يجري تدريسها في المدارس غير الدينية، فعلى سبيل المثال أشار الكوثري إلى أنه لا يرى أن دوران الأرض حول نفسها سبب الليل والنهار، بل الشمس هي التي تدور كما في (مقالات الكوثري)، أما التويجري فقد كتب:
"صرح بعض المحققين بتكفير من يقول بحركة الأرض وسيرها" !.[1]
هنا الأمر يضحي تكفيرًا في جانب العلوم، بدل صحيح، وخطأ، دلت عليه الأدلة، أو هو ضعيف، ثم إن التويجري يعرض طريقة، تهدم العلوم رأسًا، فيقول:
" لم يكن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم بإحسان ولا أئمة العلم والهدى من بعدهم يرصدون القمر ويرجمون بالغيب عما فيه وحاشاهم من التخرصات والظنون الكاذبة.. ولو كان رصد القمر والبحث عما فيه خيرا لكان الصحابة رضوان الله عليهم أسبق إلى ذلك من غيرهم."  [2]
فالعلوم الفلكية لا يفترض الخلط بينها وبين الطلاسم، والتنجيم ونحو هذا، وهذه مشكلة عويصة لا تزال تعاني منها كثير من التيارات الدينية، فابن تيمية مثلًا حرّم الكيمياء فقال:
"الكيمياء باطلة محرمة، وتحريمها أشد من تحريم الربا". [3]
وهو يعني الكيمياء القديمة، التي تشمل "الكيمياء غير العلمية وهي التي تسعى إلى تحقيق غرضين: 
الأول: هو تحويل المعادن الخسيسة (النحاس، الحديد، الرصاص إلخ) إلى المعدنين الشريفين، (الذهب والفضة).
والثاني: هو تحضير (إكسير الحياة) وهو الدواء الذي يراد منه علاج كل ما يصيب الإنسان من آفات وأمراض." [4]
وبشكل عام فقد كانت كلمات ابن تيمية في ممانعة الأرسطية وما دار في فلكها، ففي " العصور المظلمة، فترة اغتصب فيها الميتافيزيقيون العلم كما يغتصب رجل امرأة، وتحولت الفيزياء إلى بحث عن حجر الفلاسفة، فترة أصبحت فيها الكيمياء سمياء، وأمسى علم الفلك علم التنجيم، مؤسفة هذه السيادة التي كانت لفكر أرسطو ". [5] 
فلا ينبغي الخلط بين هذا وذلك، وبين العلم الزائف و العلم الحقيقي !، وتفهم فتاوى ابن تيمية في هذا السياق، لكن أن يتم تعميمها لتشمل الكيمياء الحديثة فهذا غير سوي، أما طريقة التويجري بأنه لو كان خيرًا لسبقنا إليه الصحابة فمردود، فهذا يكون في المسائل الدينية، لا الدنيوية المبنية على تراكم المعارف البشرية، وتطور القدرات المادية، وإلا فالطباعة لم يسبقنا إليها الصحابة، وهو قد طبع كتابه.
وقال التويجري:
"ما ذكره الآلوسي عن أهل الهيئة المتأخرين من أن قيام العالم العلوي والسفلي بالجاذبية فهذا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، وما لم يقم عليه دليل فليس عليه تعويل."  [6]  
وهذه الطريقة من جنس ما قبلها، طلب الدليل الشرعي على شيء دنيوي مسكوت عنه، فالنصوص دينية، ولم تأت لإثبات الجاذبية أو نفيها، وليست الأدلة محصورة في الأدلة الشرعية، فلكل علم أدلته، ولا يصح إسقاط أدلة علم على آخر، قال التويجري:
"قلت: وزعم (المطيعي) تقليدا لأهل الهيئة الجديدة من فلاسفة الإفرنج أن جرم الشمس أكبر من الأرض بأضعاف مضاعفة لا دليل عليه من كتاب ولا سنة وإنما يعتمد أهل الهيئة الجديدة على نظاراتهم وآرائهم وتخرصاتهم وظنونهم التي لا تغني من الحق شيئا.
والظاهر من أدلة الكتاب والسنة أن جرم الأرض أكبر من الشمس والقمر والنجوم."  [7]
وهكذا الأمر، فتحديد حجم الشمس، أو الأرض هذه مسألة علمية دنيوية، ليست من شأن العلوم الدينية، كذلك حركة الأرض من عدمها، كانت تحدد أنها ثابتة !، وفي تسويغ ذلك يقال:
"إنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد بهم، والميد هو الحركة، والاضطراب، والدوران كما نص على ذلك علماء التفسير."  [8]
وهذا يتجاوز أن المسألة علمية، وإلا فالنص نفى أن تميد ((بهم)) لا أنها لا تميد مطلقًا، فهذا سكون نسبي بالنسبة إليهم، على أي حال تخيل العقبات الطويلة، لو أن عالم الفلك سيدخل في نقاشات مثل هذه، وماذا يعني النص، وأنه لا يعارض النصوص ونحو هذا، لذهب عمره دون أن ينجز في العلم، ولا في المعارف الشرعية !

9

في موقف على النقيض من الممانعة للعديد من الاكتشافات العلمية، كان هناك موقف حاول احتواء تلك الكشوف، لكن هذه المرة بتأويل النصوص الشرعية، وهذا الموقف لا يقل إن لم يكن يزيد الطين بلة على الموقف السابق، فأضحى هناك هوس بما يسمى بـ (الإعجاز العلمي) ولو على حساب المنهجية السوية في فهم النصوص الشرعية، واستشرى التأويل، والمشكلة تظهر ولو بتأويل نص واحد، فلو اتسق المؤول مع نفسه سيؤول نصًا ثانيًا وثالثًا وهكذا، فلا يبقى عندهم لو اتسقوا مع أنفسهم - للشريعة قانون أصيل في الفهم، وتضحي ظواهر الشريعة هي الأجنبية عن هذا المنهج، فعلام يتشدد فيها، وسيولة التأويل تفعل فعلها في مثل هذا ؟!
كتب الغماري: (مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية) في هذا الإطار، وافتتحه بقوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: 
"
الله تعالى أطلعه على كل شيء، وآتاه على كل شيء، وجلّى له كل شيء، وتجلى له فعلم ما بين السماوات والأرض، وما كان وما هو كائن".[9]
وما قاله ادعاء عريض باطل، وإن كانت فحواه تتجلى كثيرًا في كلام غيره أيضًا من المهووسين بموضوع الإعجاز العلمي، فقد أمر الله نبيه أن يقول: ( إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) فهو بشر مثلنا، يوحى إليه فيبلغ رسالة ربه، ولم يكن يعلم الغيب، (ولا أعلم الغيب)، ولم يكن يعلم حال بعض من يعيشون بين ظهراني المسلمين في المدينة (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم)، ويبدأ الغماري بذكر ما أخبر عنه وأشار إليه.
فيقول: "أما الطائرات الحربية فمذكورة في القرآن الكريم.. "[10] !، ويتحدث عن الإخبار بـ "القنابل الذرية والهيدروجينية " [11]، و "التلفون والتغراف والراديو " [12]، و "إخباره صلى الله عليه وسلم بوجود البترول " [13]، ويستدل لذلك بقوله: "وإذا البحار سجرت " !.
وقد انبرى التويجري للرد عليه في كتاب بعنوان: (إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة)، قال فيه بأن الغماري: " تأويل الآيات والأحاديث على غير تأويلها " [14]، وأنه " من القرمطة والقول في كتاب الله بغير علم " [15]، وليس المقام هنا يسمح بعرض ما جاء في الكتابين، لكن للتمثيل فإن " البحر يسجر عند قيام الساعة " [16]، فالتأويل الذي يسلكه الغماري بعيد ولا تدل عليه الأدلة.
إن ما يقوم به الغماري ومن سلك مسكله يواجه مشكلة وهي لماذا لم يفهم من نزل عليهم القرآن هذا ؟، فـ " العباد إنما كُلّموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون " [17]، لماذا لم يخترعوا هم هذه المكتشفات التي أخبرت عنها نصوص كتابهم كما يقال ؟، إن الخطورة التي يقوم بها هؤلاء نقل العلوم والمعارف من جانب المعرفة التراكمية، والاحتمالية للصواب والخطأ، لتضحي معاني للنصوص، كما أنها خطوة انتهازية تحمل في أحشائها تجريد الجهود الكبرى في الاكتشافات، لتقول هي أصلًا مذكورة عندنا من قبل !، فضلًا عن تجاوزها علوم القرآن وقواعد التفسير، وأصول الفقه.
لقد وضعت في الصورة التوضيحية احتجاجًا مغلوطًا بالآية (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها) فالآية لا تشير بأي حال لكائن فوق رأس البعوضة، فمثلًا: الجراثيم يمكن أن توجد على رأس دبوس، وعلى رأس أي كائن آخر، إنما الآية تعني أكبر منها في العظم أو الصغر قولان للعلماء، وهذه الصيغة جاءت في أحاديث أيضًا، مثل ما في صحيح مسلم عن عائشة مرفوعًا: " ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة " فهل يقصد هنا وجود شيء فوق رأس الشوكة ؟!
إنما الكلام يعني يشاك شوكة أو أكبر منها، أو حتى دونها إلا كتبت له بها درجة، فالآية تعني إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا بالبعوضة وأكبر منها في صغرها، وقلة شأنها عندكم، أو أكبر منها.
إن عملية التأويل للتوافق مع العصر، مع صدمة الحداثة لم يقع بها أشاعرة، أو ماتريدية فحسب، بل سلفيون أيضًا، فعلى سبيل المثال قال عبد الرحمن السعدي:
"
يأجوج ومأجوج هم الأمم الذين ظهروا على الناس في هذه الأزمان، من أصناف الفرنج، والأمريكانيين وغيرهم، وأن المسألة مسألة قطعية[18] " !
فانظر إلى قطعه إضافة لهذا !.
وتمدد التأويل إلى ما يسمى بالإعجاز العددي بما يشبه فرقة (القبالة)، وشيئًا فشيئًا، صار القرآن عند أقوام يماثل الضرب بالرمال، وقراءة الكف والفنجان !، فذلك يتنبأ بقيام حدث عظيم بعد جمعه وطرحه لعدد سور معينة، وذلك يقول ستنتهي الدولة الفلانية في 2027 !، وكلها حديث خرافة، لم تتقيد بأصول الاجتهاد، ولا يصح اعتذار صاحبها بعد ذا بأنه يجتهد فإن أصاب فمن الله، فمن سلك الاجتهاد بغير طريقه فأصاب فعليه إثم الكلام بجهله، فمن زعم أنه طبيب وليس بأهل له قد يصيب مرة !، كذلك العرّاف قد يصدق مرة، لكن منهجه يوصله ليكذب مرات.
على أي حال، كان هذا الطريق الذي في ظاهره عدم معارضة العلوم، هو من أشد الطرق معارضة للعلوم وتقدمها، ولم ينصر العلم ولا الشرع، لم ينصر العلم بزجه في النصوص وتأويلها، فالاكتشافات العلمية لم ترتبط بنص يؤوله شيخ، والعلوم وتنبؤاتها لها طرقها العلمية وأدلتها، وهو يتسورها بجهل، فيفتي في غير علمه !، وعلى سبيل المثال كتب بعضهم كتابًا سمي بـ (نظرية آذان الأنعام) ليجمع بين الشرع ونظرية داروين، فأساء بفهمه للاثنين، وفي تكلفه لم يصور موقف واحد منهما !، كذلك التنبؤ بحدث سياسي معين، فهذا تابع لمعارف استراتيجية وسياسية، وليس لشيخ طريقته أن يضغط متكلفًا على نص محاولًا منه فهم ما الذي سيحصل غدًا !، كذلك لم ينصر الشرع، حين تأوله على غير تأويله، ولم يفرق بين الدين والدنيا، وثبت في الحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم).

10

لا يمكن فصل الوافد الجديد، عن العجلة الاقتصادية التي تحركه، وينشرها في المناطق التي يصلها، آلية الاقتصاد الرأسمالي، ذلك الاقتصاد الذي وصل المناطق الإسلامية التي كانت منظومة الاقتصاد فيها مشتركة بين الفلاحين، والاقطاع، والتجارة بطريقة ما قبل الرأسمالية، مجتمع كانت لا زالت فيه القبيلة تشكل نسيج مجتمعه، بعاداتها وتقاليدها، كذلك فإن عقلية كثير من الفقهاء لا تزال تحتكم إلى المدونات التي نشأت في ظل أنظمة اقتصادية إقطاعية وفلاحية بل وحتى ما قبل الإقطاع، ومن هنا كانت المدونات الفقهية تركز على جانب الفرد، فتدور الأحكام حوله، وبما أن القبيلة لها شأنها فقد وجد في المدونات الفقهية حديث عن الطائفة كالطائفة الممتنعة، للتعامل بشكل سويّ مع الواقع الذي يتقسم وفق طوائف وعصبات اجتماعية.
ولكن مع دخول العجلة الرأسمالية كانت القبيلة تضمحل وتتفكك، وينقسم المجتمع من (الطائفة، والقبيلة) إلى طبقات، تتوزع حسب مستواها مصالحها الاقتصادية، وتعيد تشكيل منظوماتها الثقافية بما يتناغم ببطء مع تلك المصالح، إن القبيلة التي كانت تحمل دية القاتل خطأ في المجتمع القديم ويجري التعامل معها من جمهور الفقهاء بالقسامة، ونحو ذلك، بدأت بالتفكك في مناطق عديدة، ليوجد من لا قبيلة له أصلًا، وإن التقدم الذي أحضرته معها الرأسمالية من كهرباء، ومدارس ونحو ذلك تحول شريحة واسعة من السكان إلى عمال، بعد أن كانوا يفلحون الأرض، أو يرعون الإبل والغنم.
كان التوحش الرأسمالي يلقي بمفاهيم عديدة في أذهان الناس، فمن ممانعة تعليم البنات، أضحى ضرورة اجتماعية، في ظل تفكك القبيلة التي تحمل مسؤولية نسائها سابقًا، صار سلاحًا للفتيات يتقين به شر ما تخبئه الأيام، ومن ممانعة عمل المرأة، لم تكن العجلة الرأسمالية لتتنظر طويلًا التأصيلات اللازمة لدفعهن إلى سوق العمل، بل صارت تدفعهن دفعًا إلى سوق العمل، كما أنها بدأت تقلص عدد الأسرة بشكل ملحوظ من ناحية عملية، فالفلاح سابقًا كان يتزوج مثنى وثلاث ورباع، دون أن يجد في ذلك إشكالًا كبيرًا، لكن مع قدوم الرأسمالية وتحوله إلى عامل، صار يعول بيتًا واحدًا بصعوبة، وتعينه أحيانًا زوجته، ليسعى لنقل أبنائه إلى ظرف غير الذي عاشه والداه.
إن المنطقة العربية لم تسر فيها المنظومة الاقتصادية بشكل متصاعد بل بشكل اعتباطي وعشوائي أحيانًا كثيرة، ولذا تجد في بلد واحد مصنعًا، وجانبه صناعة يدوية، منطقة لا يزال فيها ما يشبه الإقطاع، وأخرى ما يدور فيه الرأسمال، كما إن وقوع المنطقة العربية تحت الاستعمار في مناطق كثيرة منها، أبرزت مشكلة كونها تابعة فعليّا وليس لمجرد الضعف السياسي كما هو شأن الدول الأخرى لدول المركز، الدول الرأسمالية الكبرى، إن الصناعة المحلية كانت تواجه الشركات العابرة للقارات التابعة لرأسمال ضخم، فتحطم الاقتصاد الوطني البدائي، ترمي بالحرفيين اليدويين في الشارع بكل معنى الكلمة، أمام هذا كله كان كثير من الفقهاء، يمانعون بتهيب القادم، فمن الصور الفوتوغرافية، إلى التلفاز، حتى الانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، لن تعدم كتابًا أو مقالات تحرم، وتذم، وتتهيب، وتحذر من كل هذا، ولا يمهل الرأسمال هؤلاء حتى يروا تحذيراتهم تتحطم في واقع الحال !.
أما عن النظر إلى الصراع الطبقي، فلا تكاد تجد له أثرًا في كتاباتهم في غمرة الحديث عن الأمة الواحدة، التي يتساوى فيها الجميع أمام الله، وإن لم يتساووا في الدنيا في مواقعهم الطبقية !، ولذا وجدت فتاوى تحارب قوانين العمل التي سعى لها عمال الأرض بشكل عام، وقاوموا لأجلها التوحش الرأسمالي، كتحديد ساعات العمل والسعي لتقليصها، وضمان وقت الاستراحة، وضمان الإسعافات الأولية، ورفع أجورهم، وضمان أتعاب تقاعدهم، وتحميل صاحب العمل مسؤولية تكاليف إصابات العمل، وإلزامه بإجازات مدفوعة الثمن، كل هذا لم تتسع له المتون القديمة، كونها لم تكن تعمل وفق منظومة اقتصادية مساوية للمنظومة المعاصرة، وفي هذا الإطار تجد فتوى كالتي قالها البوطي بأنه يحرم الإضراب عن العمل لتحصيل بعض الحقوق، كونه يخل بالعقد.
اجتاحت منجزات الرأسمال المادية، بما حوته من فلسفات وثقافات المناطق العربية، وبثت رؤاها المتنوعة، واستثمرت في الدين كماركة أحيانًا كثيرة، ليضحي هناك قنوات إسلامية، بدعاياتها لشركات رأسمالية متنوعة، بنوك إسلامية، مصارف، إن ما يجري كان ابتلاع المنطقة رأسماليًا..

11

 لا يمكن فصل القابلية للعلمانية، عن التأويل بغير وجه حق للنصوص الشرعية، تلك الطريق التي سلكها كثير من الفرق، التحالف بين سلطة سياسية وبين مجموعة ممن يتأول النصوص لأيدلوجيا معينة أو خط سياسي معين، كانت قديمة، فيطلعنا التاريخ على سبيل المثال عن تحالف المأمون مع المعتزلة، المعتزلة وقتها شكلوا أيدلوجيا بديلة للسلطة العباسية في وجه الأيدلوجيات السابقة التي اتهموها بالأموية كالجبرية، ما يحدثه هذا التأويل للنصوص هو فصل النصوص نفسها عن الحكم ولكن (بلغة أخرى)، إن تاريخ التأويل والتأويل المضاد طويل، ووصل حتى التجاذبات الايدلوجية في القرن 20، ويظهر جليا في موضوع التأويل لصالح نظريات مثل الداروينية ونحو ذلك.
إن ما يقوم به التأويل هذا هو جعل الدين عاملًا ثانويا في المعنى، فالمعنى محدد سلفا سواء بمنطق أرسطو، أو الداروينية ونحوها، والدين يأتي كمغلف، كما حصل آخر شيء في تونس من موافقة الإقتاء لقرار السماح بزواج المسلمة من غير المسلم، فالمؤسسة الدينية هنا تحكم على نفسها بالانعزال من نفسها، باهتزاز ثقة الناس بشكل عام فيها، وفيمن يسلك سبيلها، في يوم من الأيام كان الدين اشتراكيا، ثم يضحي رأسماليا، كان داروينيا، ثم أضحى من التصميم الذكي، ونحو ذلك، هذا سيجعل الناس ترى بأن الدين لا موقف له بما أنه حوى كل تلك المواقف المتناقضة، سيتحول إلى جانب أخلاقي روحي، لا كلمة واضحة له، سوى ما هو من عينة الوصايا الروحية حتى ولو كانت مستحيلة التطبيق مثل: (أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم) وإن كانت تنضح بالعاطفة.
إن عملية التأويل أدت إلى ضرب الوعي بكثير من المسائل، على سبيل المثال الآلية الديمقراطية، فقد جرت مقاربتها مع الشورى من كثير من الإسلاميين، مع الفارق بينهما، فالديمقراطية أداة تخرج عن إطار محدد سلفا دينيا للأحزاب المختلفة، إنها إدارة لتصارع الأحزاب على السلطة بأفكارها وأيدلوجياتها ومصالحها، إنها تتصارع برلمانيا لا تتشاور بينها، إنها لا تريد أن تنزل إلى الشارع وتشعل حربا أهلية يخسر فيها الجميع مصالحه، فتضبط نفسها عن الانفجار، لتتصارع فيما دونه إنها بعبارة فوكو (السياسة استمرار للحرب بوسائل أخرى) !، مثل الحرب الباردة في القرن 20، لا يقال بأنها تتشاور فيما بينها كما يشير صديق على صديقه، وأخ على أخيه، إنها آلية واضحة لا تجد فيها طمسًا إلا بين العديد من الإسلاميين المتأولين، فيشوهونها، وفي نفس الوقت لا يقولون بما تعنيه النصوص ! (بقطع النظر عن جواز المشاركة من عدمها لكنها حتما ليست مجرد شورى إسلامية ! )، فمن نتائجها الحتمية:
"الخروج من الدين: لا يعني التخلي عن المعتقد الديني، وإنما الخروج من عالم يكون الدين بحد ذاته منظما بنيويًا، يوجه الشكل السياسي للمجتمعات، ويعين البنية الاقتصادية للرباط الاجتماعي، إن المجتمعات الخارجة من الدين هي بالتحديد المجتمعات التي يمكن اعتبار الدين بنية فوقية بالمقارنة مع بنية تحتية تعمل في غيابه على نحو تام، إن الخروج من الدين هو في المحصلة: الانتقال إلى عالم يستمر وجود الأديان فيه، ولكن ضمن شكل سياسي وتنظيم جماعي لم تعد تعنى بتحديدهما...  إنه بكل  بساطة يطلب من المؤمنين أن يحتفظوا بإيمانهم الشخصي بالخلاص للعالم الآخر، وأن يدخلوا اللعبة المشتركة المستقلة عن الدين في هذا العالم المعاصر".
(الدين في الديمقراطية، مارسيل غوشيه، ترجمة: ترجمة شفيق محسن، المنظمة العربية للترجمة، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى: 2007، ص 157).
هذه اللعبة ليست واضحة المعالم بين المؤمنين بأنها مجرد شورى، وأن الإسلام ديمقرطي مثلا ونحو هذا، إن التأويل كما أنه أحدث هزة للمؤسسة الكنسية في أوروبا حين تم ضرب أرسطو، ولولا التأويل لأمكن أن يقال بأنه ما علاقة الكنيسة بفيلسوف كأرسطو !، ولكنها لما تأولت لصالحه ربطت مصيرها به، فلما تساقطت دعاوي أرسطو، كان يجرها هذه المرة معه نحو الهاوية، كما جرته يومًا ما معها نحو الكتاب المقدس، وبهذا وأمثاله، كانت دائرة المعارف كلما تتسع، تكشف الحجم الهائل الذي قدمه رجال تكلموا طويلًا باسم الإله، ولم تكن أفكارهم سوى حديثا باسم رجل مثلنا، إنسان له شطحاته وأخطاؤه المؤجلة على أحسن حال !.
إن من المساهمين بشكل كبير في قبول العلمنة، قطاع هائل من الإسلاميين، حاولوا محاربتها، ولكنهم كانوا يقدمون التخلي عن الخندق تلو الآخر، في رحلة تأويلية تنتهي في النهاية أنه لا فرق بينهم وبين خصومهم في نظر المتتبع لهم، وبالتالي تسقط المعنى الحقيقي الذي يصارعون خصومهم عليه.
الأمر شبيه في التراث الكلامي، بالملحمة الأوديسيّة التي دارت بين الأشاعرة والمعتزلة في موضوع رؤية الله يوم القيامة، فمع المتأخرين من الأشعرية أضحى الخلاف لفظيا مع المعتزلة، فلم كانت كل تلك الجلبة إذن ؟.
إن عوامل قبول العلمنة كانت كبيرة هائلة، يجب الانتباه لها، ودراستها نقديا، بشكل يسبق ولو منطقيا، أي هجوم على العلمنة نفسها، والتي سأتحدث عنها في سلسلة مفردة لاحقا إن شاء الله، فإلى ذلك الحين:
مودتي لكم


ملحق: خنجر محاكم نوريمبرج في قلب العلمانية.. (نشرته قبل فترة على تويتر)

في محاكمات نوريمبرج ظهرت مشكلة، كيف يمكن محاسبة القضاة في ظل الحكم النازي، إن كان القاضي فقط ينفذ قانوناً سنه المشرع، أليست هذه العدالة ؟
هنا تظهر المشكلة في جعل العدالة أن تتبع قوانين بلدك، ماذا لو كانت تلك القوانين ظالمة، فالقانون ليس وصفاً معيارياً ولذا فهناك قانون جائر..
أليس القاضي مؤهلاً لمعرفة أن القانون الذي يطبقه ظالم ومجحف، فلم إذن يفترض أن يعتقد أن العدالة في تطبيقه للقانون الذي يعارضه ؟
محاكمات نوريمبرج كانت تكشف عوار النظام العلماني الحديث عند انتصار منظومة منه على أخرى، فهي تجعل الحق للمجتمع في التشريع، دون ضمانة لصوابه وتحصر وظيفة القضاة في تطبيق القوانين التي يفرزها المشرعون، والذين قد يخضعون للأيدلوجيا أو المصلحة أو السلطة السياسية، ومن هنا تبرز نقطة:
إننا نحتاج مفهوماً للعدالة يتجاوز حدود المجتمع نفسه للتمييز بين الحق والباطل، وسحب هالة العصمة عن القانون لمجرد كونه قانوناً، ومن هنا تأتي أهمية النظر العقلي الصحيح، والشرع الصحيح للفرقان بين الحق والباطل، محاكمات نوريمبرج كانت محاكمة للعلمانية فلسفياً بدرجة أولى
حصر العدالة في المجتمع كمفهوم علماني، أوجد مشكلة فلسفية أبرزها فوكو مفادها: إن عارضت انت المجتمع، فهذا يعني انك تعارض العدالة !
فإن قلت: لكن موقفك حق، فيقال كيف هذا والحق مفهوم من نتاج المجتمع نفسه، ومن هنا ذهب فوكو للحل النيتشوي وهو تجاوز الخير والشر.
فصار ينظر إلى مجتمع كسلطة ومعارضتك مواجهة للسلطة او مقاومة لها بدون محق من مبطل دون ظالم ومظلوم ! الى هنا وصل به الامر كدفع للعلمنة لآخرها.
لما كانت القوانين تمثيلا لارادة الشعب وفق المنتج الاوروبي العلماني للمجتمع، ولما كان المعارض لقانون موافق عليه متى تم إقراره فان بهذا مشكلة ومفادها أن القوانين الإجرامية متى تم سنها فإنها تصدر باسم الشعب، وبالتالي فكل الشعب مجرم !، هذه المشكلة لامستها محاكمة نورمبرج !
المشكلة الفلسفية تبرز في اعتبار قانون ما بانه مجرم لإدانته لعرق كامل، ولكن أليست إدانة شعب كامل تندرج أيضا في نفس الإطار ؟
ما هو معيار التجريم في إطار علماني ؟ إنه خروج عن المجتمع هكذا تمت فلسفة الأمر أخلاقيا إن مخالف القانون خارج عن الإرادة المجتمعية..
ولكن ما المشكلة في مصادمة إرادة المجتمع القانونية ؟ إنها رديف الخيانة إن المجرم هو خائن للمجتمع كما يرى فوكو في جذور الخطاب العلماني الأوربي، والمجرم لما تم النظر إليه كخائن، وكانت الخيانة تستوجب الإعدام سيتم تعميم الإعدام على كل جريمة ! من السرقة حتى القتل ! من مخالفة شارة المرور أو إلغاء الإعدام تماما ! حتى يتسنى محاسبة الجرائم باختلاف درجاتها، ومن هنا برز توحيد عقوبة السجن على الجرائم وإلغاء الإعدام.
وهذه جذور استحسان عقوبة السجن والنفرة من الإعدام في العقلية العلمانية المعاصرة..









[1] الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، حمود بن عبد الله التويجري، الطبعة الأولى 1388 هـ، ص 61.

[2]  الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 183 – 184.
[3]  الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، اختارها أبو الحسن علي البعلي، تحقيق: محمد حامد الفقي، الناشر دار المعرفة - لبنان. ص 129.
[4]  دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب، عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى: 1981 م، ص 17 – 18.
[5]  العقب الحديدية، جاك لندن، تعريب: منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، الطبعة الرابعة: 1979، ص 16.
[6]  الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 180.
[7]  الصواعق الشديدة على أتباع الهيئة الجديدة، ص 77.
[8]  الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكوكب وعلى جريان الشمس والقمر وسكون الأرض، عبد العزيز بن باز، مكتبة الرياض الحديثة، ط 2، 1982، ص 23.
[9]  مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، أحمد بن محمد الغماري، دار الطباعة المحمدية – القاهرة، الطبعة السادسة: 1971 م، ص 2.
[10]  مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، ص 19.
[11]  مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، ص 17.
[12]  مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، ص 18.
[13]  مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية، ص 24.
[14]  إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة، حمود التويجري، مؤسسة النور للطباعة، الرياض، الطبعة الأولى، ص 4.
[15]  إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة، ص 33.
[16]  إيضاح المحجة في الرد على صاحب طنجة، ص 55.
[17]  الكتاب (كتاب سيبويه)، عمرو بن عثمان بن قَنبر، بتحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة - مصر، الطبعة الثالثة: 1408 هـ - 1988 م، ج 1، ص 331.
[18]  فتنة الدجال، ويأجوج ومأجوج، عبد الرحمن السعدي، تحقيق: أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان القاضي، دار ابن الجوزي، ط 2: 2006 م، ص 46.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق