15 يونيو 2018
الغباء ليس دينا
1
الإسلام
لكل البشر، على تفاوت مستوياتهم العقلية، وبهذا يتسع للذكي والبليد، وهذا حق، لكن
الإشكال عند أقوام جعلوا من الغباء دينًا، فبما أن الدين شملهم، ظنوا أن غباءهم
يشمل الدين، وفي هذا الإطار تحركوا، وبما أن الدين يخاطب قطاعات جماهيرية واسعة،
وجدوا لأنفسهم فرجة بين المخاطبين للناس، فتصدّروا...
لم يكن التصدر صعبًا، يكفي أن يتحدث ببعض الرقائق، وبعض الأبجديات حتى يبدأ غباؤه يشتعل، وفي هذه السلسلة سأذكر بعضًا من صور هذا.
((التصدر لحل المشاكل النفسية والاجتماعية والجسدية))
في فترة معينة لم تكن الحجامة معروفة في العديد من البلاد، وكان من الأشخاص الذين ساهموا في نشرها بعض مشايخ التبليغ، حيث سافروا من مجتمعاتهم، وخرجوا إلى باكستان/الهند/بنغلاديش، وعادوا إلى بلدانهم، بهيئات مختلفة عن مجتمعاتهم، وكان مما حصلوه (الحجامة)، أظهروا تلك السنة بين الناس، وقرأوا على مسامعهم العديد من الأحاديث فيها، فالعلاج في ثلاث، ومنها شَرطة محجم.
بدأت الحكاية بهذه البراءة، وهذا النفس في إحياء سنة لا يكاد يعرفها إلا قلة من الناس، وكعمل تطوعي، جمعوا العديد من الناس، وحجموهم لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا، ثم قليلًا... قليلًا، توسعت الحكاية.
صار العديد منهم يأخذ بعض ما تجود به نفوس المتصدقين، بما يقارب 10 دولارات للحجامة الواحدة، ثم بدأ الحديث عن الحجامة ليس كعلاج للأمراض الجسدية، بل تطور الأمر إلى علاقتها بعلاج السحر والشياطين، والحسد ونحو هذا.
كان الأمر كالثقب الأسود في العديد من العامة، فكلهم يعاني من مشاكل، وجاءهم الحل الفوري، وانفتح الباب من حجامة، إلى إخراج جن، ورقية شرعية، تبدأ الحكاية بالتطوع، ثم ما أن يقبل الناس، حتى تبدأ قصة أخرى: ما تجود به نفسك، ثم تضرب تسعيرة معينة على أنواع الكشف عن هذا.
ولربما كان الشيخ المعالج أعمى، مقعدًا عن العمل لفترة طويلة، وجاءت البركة من هذا، تنفتح الحكاية إلى حل السحر، وإلى علاج العقم، ونحو ذلك، وفي الختام لا يعدهم (الشيخ) بشيء، سوى أن العلاج من الله، وأنه سبب فقط لا غير.
قابلت رجلًا أنفق ما يقارب 5 آلاف دولار على مثل هذا النوع من العلاج، بدأ من توسم شيخ فيه بأنه مسحور، حتى وصل إلى مسكون، ثم إلى ملبوس بعدد لا يعلمه إلا الله من الجن، بحيث يتناوبون على جسده كأنه شقة مفروشة لهم.
وفي ظل هذه الدوامة، وإقبال الوعي الجمعي على مثل هذا النوع من الناس، تنتشر بينهم حكايات متعددة، تجعل من المعتقدين بإصابتهم بأمراض من هذا أكثر فأكثر، وتضحي الدائرة مغلقة جدًا، ويغتني من ورائها قطاعات لا تجد عملًا يكسبها رزقًا، ولا هي بالذكية التي يمكنها أن تنتج شيئًا فكريًا، وتنفتح الحكاية على تجارات متنوعة من العسل، فهذا مقروء عليه، وذلك من اليمن فيه بركة علاجية كبيرة للسحر والعين ونحو ذلك.
لم يكن التصدر صعبًا، يكفي أن يتحدث ببعض الرقائق، وبعض الأبجديات حتى يبدأ غباؤه يشتعل، وفي هذه السلسلة سأذكر بعضًا من صور هذا.
((التصدر لحل المشاكل النفسية والاجتماعية والجسدية))
في فترة معينة لم تكن الحجامة معروفة في العديد من البلاد، وكان من الأشخاص الذين ساهموا في نشرها بعض مشايخ التبليغ، حيث سافروا من مجتمعاتهم، وخرجوا إلى باكستان/الهند/بنغلاديش، وعادوا إلى بلدانهم، بهيئات مختلفة عن مجتمعاتهم، وكان مما حصلوه (الحجامة)، أظهروا تلك السنة بين الناس، وقرأوا على مسامعهم العديد من الأحاديث فيها، فالعلاج في ثلاث، ومنها شَرطة محجم.
بدأت الحكاية بهذه البراءة، وهذا النفس في إحياء سنة لا يكاد يعرفها إلا قلة من الناس، وكعمل تطوعي، جمعوا العديد من الناس، وحجموهم لا يريدون منهم جزاء ولا شكورا، ثم قليلًا... قليلًا، توسعت الحكاية.
صار العديد منهم يأخذ بعض ما تجود به نفوس المتصدقين، بما يقارب 10 دولارات للحجامة الواحدة، ثم بدأ الحديث عن الحجامة ليس كعلاج للأمراض الجسدية، بل تطور الأمر إلى علاقتها بعلاج السحر والشياطين، والحسد ونحو هذا.
كان الأمر كالثقب الأسود في العديد من العامة، فكلهم يعاني من مشاكل، وجاءهم الحل الفوري، وانفتح الباب من حجامة، إلى إخراج جن، ورقية شرعية، تبدأ الحكاية بالتطوع، ثم ما أن يقبل الناس، حتى تبدأ قصة أخرى: ما تجود به نفسك، ثم تضرب تسعيرة معينة على أنواع الكشف عن هذا.
ولربما كان الشيخ المعالج أعمى، مقعدًا عن العمل لفترة طويلة، وجاءت البركة من هذا، تنفتح الحكاية إلى حل السحر، وإلى علاج العقم، ونحو ذلك، وفي الختام لا يعدهم (الشيخ) بشيء، سوى أن العلاج من الله، وأنه سبب فقط لا غير.
قابلت رجلًا أنفق ما يقارب 5 آلاف دولار على مثل هذا النوع من العلاج، بدأ من توسم شيخ فيه بأنه مسحور، حتى وصل إلى مسكون، ثم إلى ملبوس بعدد لا يعلمه إلا الله من الجن، بحيث يتناوبون على جسده كأنه شقة مفروشة لهم.
وفي ظل هذه الدوامة، وإقبال الوعي الجمعي على مثل هذا النوع من الناس، تنتشر بينهم حكايات متعددة، تجعل من المعتقدين بإصابتهم بأمراض من هذا أكثر فأكثر، وتضحي الدائرة مغلقة جدًا، ويغتني من ورائها قطاعات لا تجد عملًا يكسبها رزقًا، ولا هي بالذكية التي يمكنها أن تنتج شيئًا فكريًا، وتنفتح الحكاية على تجارات متنوعة من العسل، فهذا مقروء عليه، وذلك من اليمن فيه بركة علاجية كبيرة للسحر والعين ونحو ذلك.
2
صورة ذلك الرجل الذي ينتصب لوعد الناس بحل مشاكلهم
الاجتماعية والنفسية والجسدية، بأدواته البسيطة وبعض الأغذية التي يرجو بها البركة
(عسل/تمر/حبة البركة)، ليست إلا نموذجًا لكثير من الصور المختلفة، وإن تنوعت
مواضعيها، فمن ذلك:
((المجال الوعظي والإرشادي))
هذا المجال تظهر فيه الانتكاسة إلى أبعد ما يمكن تصوره في ظل التسجيلات الصوتية، التي لا تكاد تمسح، فقد غلب النموذج (التبليغي) في هذا الإطار إلى أبعد مجال، وهذا الباب فتح للعديد من الأغبياء المجال واسعًا ليتصدروا، والغباء ليس عيبًا متى لم يكن للمرء حيلة فيه، لكن الإشكال لما يتصدر في أمر لا يفترض لأي كان، فبعض الشباب ممن لا حيلة له في جانب من العلوم الشرعية، بل حتى اللغوية، ولعله يتثاقل أن يدرس متنًا صغيرًا لتقوية لغته، وجد الحل، أن يستمع إلى شريط لـ (لكشك/العوضي/القرني...إلخ) ويظل يسمعه طيلة اليوم، ثم يقوم بإفراغه في حلقة!
وبعدها يهلل الناس له ويفرحون به، ممن لم يكونوا يعرفون الشريط الأصلي، وبعضهم يقلّد حتى نبرة الصوت واللكنة، فمثل هؤلاء يرددون كلامًا حتى لا يعرفون معناه متى سئلوا عنه، وحرصوا على التصدر والجاه بين الناس بما غروهم به، وما يفعلونه غش فما قالوه ليس لهم، وبعضه لا معنى له، وأذكر بعضهم كان يردد: (عجب عجب ولا ينقضي العجب إلا في شهر رجب) فما معنى هذا! مجرد نغمة تسجيع لا فائدة منها.
وبهذا فإنهم ينشرون الغباء، فتجد من يتسابق إلى حضور تفريغاتهم الصوتية، بحجة أنها (درس للشيخ) وما أحرى ذلك المسمى بالشيخ صاحب المسمى بالدرس، أن يرفق بنفسه قليلًا وينهمك بالدراسة بدل التدريس، وبالعلم قبل التعليم، فما يقومون به، مجرد عدوى للغباء، فغيرهم يريد أن يقلدهم، ويضحي على وزن نظرة أفلاطون للشعر: إنه تقليد للتقليد!
ومثل هؤلاء هم الذين شوهوا الوعي الجمعي مرات ومرات، بل إنهم الذين يعيّر بهم المسلمون مرارًا، فلا يكتفي في (درسه الوعظي) بتسجيعات رجب وعجب، بل يمتد إلى جانب العلوم والفكر والفلسفة، والسياسة وغيرها من موضوعات لم يطالع فيها كتابًا، وإن طالع فشقشقات يُعِد بها خطبته، ويضبط بها موازين جِناسه، وفواصل كلامه.
إنهم الذين يصدق عليهم ما عنون به القصيمي كتابه، بأنهم ظاهرة صوتية، مجرد حناجر بلا عقول، ويعنيهم فن الأداء، والإلقاء، وحسن القبول، لنتيجة الثناء عليهم، على حساب المضمون، فالمضمون فارغ تمامًا، وكأن أحدًا أكرهه على الإلقاء، لكنه حب الرئاسة، والسؤدد بين الناس.
((المجال الوعظي والإرشادي))
هذا المجال تظهر فيه الانتكاسة إلى أبعد ما يمكن تصوره في ظل التسجيلات الصوتية، التي لا تكاد تمسح، فقد غلب النموذج (التبليغي) في هذا الإطار إلى أبعد مجال، وهذا الباب فتح للعديد من الأغبياء المجال واسعًا ليتصدروا، والغباء ليس عيبًا متى لم يكن للمرء حيلة فيه، لكن الإشكال لما يتصدر في أمر لا يفترض لأي كان، فبعض الشباب ممن لا حيلة له في جانب من العلوم الشرعية، بل حتى اللغوية، ولعله يتثاقل أن يدرس متنًا صغيرًا لتقوية لغته، وجد الحل، أن يستمع إلى شريط لـ (لكشك/العوضي/القرني...إلخ) ويظل يسمعه طيلة اليوم، ثم يقوم بإفراغه في حلقة!
وبعدها يهلل الناس له ويفرحون به، ممن لم يكونوا يعرفون الشريط الأصلي، وبعضهم يقلّد حتى نبرة الصوت واللكنة، فمثل هؤلاء يرددون كلامًا حتى لا يعرفون معناه متى سئلوا عنه، وحرصوا على التصدر والجاه بين الناس بما غروهم به، وما يفعلونه غش فما قالوه ليس لهم، وبعضه لا معنى له، وأذكر بعضهم كان يردد: (عجب عجب ولا ينقضي العجب إلا في شهر رجب) فما معنى هذا! مجرد نغمة تسجيع لا فائدة منها.
وبهذا فإنهم ينشرون الغباء، فتجد من يتسابق إلى حضور تفريغاتهم الصوتية، بحجة أنها (درس للشيخ) وما أحرى ذلك المسمى بالشيخ صاحب المسمى بالدرس، أن يرفق بنفسه قليلًا وينهمك بالدراسة بدل التدريس، وبالعلم قبل التعليم، فما يقومون به، مجرد عدوى للغباء، فغيرهم يريد أن يقلدهم، ويضحي على وزن نظرة أفلاطون للشعر: إنه تقليد للتقليد!
ومثل هؤلاء هم الذين شوهوا الوعي الجمعي مرات ومرات، بل إنهم الذين يعيّر بهم المسلمون مرارًا، فلا يكتفي في (درسه الوعظي) بتسجيعات رجب وعجب، بل يمتد إلى جانب العلوم والفكر والفلسفة، والسياسة وغيرها من موضوعات لم يطالع فيها كتابًا، وإن طالع فشقشقات يُعِد بها خطبته، ويضبط بها موازين جِناسه، وفواصل كلامه.
إنهم الذين يصدق عليهم ما عنون به القصيمي كتابه، بأنهم ظاهرة صوتية، مجرد حناجر بلا عقول، ويعنيهم فن الأداء، والإلقاء، وحسن القبول، لنتيجة الثناء عليهم، على حساب المضمون، فالمضمون فارغ تمامًا، وكأن أحدًا أكرهه على الإلقاء، لكنه حب الرئاسة، والسؤدد بين الناس.
3
الإشكالات التي أعاقت الوعي كثيرة، ولا تقتصر على
الملقين، أو المتصدرين بين الناس، فهؤلاء لم يكونوا ليحصلوا أي جاه، ولم يكن ليشار
إليهم، لولا حكم الجماهير بتصديرهم، ومن هنا يتحرك هؤلاء المتصدرون داخل دائرة
مغلقة، بحيث لو خالفوا جمهورهم ما حُكم لهم بالعلم والمعرفة، فهم في الواقع ليسوا
من يؤثرون بشكل واضح في صياغة وعي الناس، بقدر ما يرددون ما يعجز جمهورهم عن قوله،
وبهذا الإطار فما يقولونه لا يدور في إطار (تأسيس) أفكار ومعارف بقدر ما هو ترديد
ما هو سائد ومتعارف عليه، وتثوير ما هو معجوز عن النطق عنه من جمهورهم.
ولكن عددًا من الذين ليس لديهم إلا قدرات ضعيفة في الذكاء، كانوا يمدون الأمر إلى أبعد حد في تعطيل التفكير عند غيرهم، ومن ذلك المبالغة، وتعظيم بعض المجالات التي يتحركون في إطارها، ومنها:
((الرؤيا وتفسير الأحلام))
ولكن عددًا من الذين ليس لديهم إلا قدرات ضعيفة في الذكاء، كانوا يمدون الأمر إلى أبعد حد في تعطيل التفكير عند غيرهم، ومن ذلك المبالغة، وتعظيم بعض المجالات التي يتحركون في إطارها، ومنها:
((الرؤيا وتفسير الأحلام))
في هذا الجانب غير المنضبط، كان للعديد من الأشخاص
حديث طويل، بل تحركت فيه جماعات كاملة، مثل جماعة جهيمان العتيبي (مقتحم الحرم
المكي) إذ تواطأت بزعمه الرؤى على اختيار المهدي، وفي هذا العصر تجد العديد من
الناس يخرجون في برامج فضائية ليبثوا معارفهم في هذا الجانب، فمن رؤية مقلوبة، إلى
رؤية رمزية، إلى بشارة، إلى تهديد، ونحو ذلك، ويتوسع هذا الأمر جدا، والسؤال الذي
يفترض طرحه هنا، هل علم الرؤى هذا منضبط، بمعنى هل يمكن للـ (العالم به) أن يعلمنا
قواعده التي يسير عليها؟
بعضهم يحتكم إلى ذوق العرب فيقولون مثلًا: العرب تأول الرؤى بكذا، أو هذا عنده فأل خير، ونحو ذلك، على أن كل البشر يحلمون، وليس الحلم حكرًا على فئة من الناس، حتى يتم تأويل أحلام البشرية وفق عرف عربي، ويبقى السؤال: ما هي القواعد، فالعلم يعرف بالتعلم فـ"إنما العلم بالتعلم"، هذا من أهم الأسئلة التي تسأل لأي رجل زعم أن ما يعرفه هو علم، فالعلم له ضوابطه وقواعده التي يمكنه أن ينقلها إلى غيره: كعلم النحو، كعلم الصرف، كعلم الأصول، كعلم الفروع، كالتجويد، ولكن يقول ابن تيمية:
بعضهم يحتكم إلى ذوق العرب فيقولون مثلًا: العرب تأول الرؤى بكذا، أو هذا عنده فأل خير، ونحو ذلك، على أن كل البشر يحلمون، وليس الحلم حكرًا على فئة من الناس، حتى يتم تأويل أحلام البشرية وفق عرف عربي، ويبقى السؤال: ما هي القواعد، فالعلم يعرف بالتعلم فـ"إنما العلم بالتعلم"، هذا من أهم الأسئلة التي تسأل لأي رجل زعم أن ما يعرفه هو علم، فالعلم له ضوابطه وقواعده التي يمكنه أن ينقلها إلى غيره: كعلم النحو، كعلم الصرف، كعلم الأصول، كعلم الفروع، كالتجويد، ولكن يقول ابن تيمية:
"أما الرؤيا وتأويلها
فباب لا ينضبط له حد"
(بغية
المرتاد، تحقيق ودراسة: موسى سليمان الدويش، مكتبة العلوم والحكم -المدينة
المنورة، الطبعة الثالثة 1422 هـ -2001م، ص 320).
بل كان نقاد الحديث يضربون بتأويل الرؤى مَثلًا على
الضعف وعدم الضبط، يقول ابن جنيد:
"قلت ليحيى: محمد بن
فضاء، كان يعبر الرؤيا؟ قال: نعم. كان يعبر الرؤيا، وحديثه مثل تعبيره.
أي أنه ضعيف الحديث."
أي أنه ضعيف الحديث."
(سؤالات
ابن الجُنيد ليحيى بن معين، تحقيق: أحمد محمد نور سيف، مكتبة الدار بالمدينة
المنورة، الطبعة الأولى 1408 هـ -1988م، ص 220).
ولاحظ أن ابن الجنيد فهم ضعف حديثه بمجرد أن تمت
مساواته بتأويل الرؤى! وعادة ما يطير هؤلاء المتصدرون في هذا المجال، إلى القول
بأن يوسف -عليه السلام- علمه الله تأويل الأحاديث، ويغفلون شقًا صغيرًا من
المسألة، وهو أن الله قال: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) قال
القرطبي: "عنى بالأحاديث ما يراه الناس في المنام، وهي معجزة له، فإنه لم
يلحقه فيها خطأ"
فانظر إلى قوله: معجزة له.
فهذا في واد، وما يحصل في واد آخر، ولذا فإن تعامل المحدّثين والأصوليين والفقهاء مع الرؤيا شديد، ولذا لا تثبت بها صحبة، ولا يقبل فيها حديث، ولا يثبت بها حكم شرعي، لكن بعضهم لم يجد إلا هذه الحرفة، وبهذا على المتصدر فيها أن يخبر الناس عن قواعده التي يسير عليها، وكيف استنبطها، ولا يكفي أن يحيل الناس إلى مصنف فلان وفلان فيها، أو يزعم أنه يتقيد بتلك الكتب، وقد علم أنه لا ينضبط في المسألة ضابط، فكيف يقيس، وكيف يستنبط؟ ومن زعم معرفة فهو المطالب بدليل ما قاله.
فانظر إلى قوله: معجزة له.
فهذا في واد، وما يحصل في واد آخر، ولذا فإن تعامل المحدّثين والأصوليين والفقهاء مع الرؤيا شديد، ولذا لا تثبت بها صحبة، ولا يقبل فيها حديث، ولا يثبت بها حكم شرعي، لكن بعضهم لم يجد إلا هذه الحرفة، وبهذا على المتصدر فيها أن يخبر الناس عن قواعده التي يسير عليها، وكيف استنبطها، ولا يكفي أن يحيل الناس إلى مصنف فلان وفلان فيها، أو يزعم أنه يتقيد بتلك الكتب، وقد علم أنه لا ينضبط في المسألة ضابط، فكيف يقيس، وكيف يستنبط؟ ومن زعم معرفة فهو المطالب بدليل ما قاله.
4
ومن المجالات التي نشرت عدوى الغباء، وتعطيل ملكات
الفكر والنقد، والتحليل السليم لأي موقف، كان في مجال:
(إسقاط أحاديث الملاحم على التحليل السياسي).
فبدون أن يستحضر المعارف الأولية في الجغرافيا والتاريخ، يطير إلى أحاديث آخر الزمان، لتحليل الأحداث المعاصرة، وإسقاط تلك الأحاديث على وقائع حية، لم يدل دليل واحد ولا شبهة دليل أنها المقصودة في الحديث، وأحاديث آخر الزمان، وذكر الملاحم ونحو ذلك لا يجوز إسقاطها على حدث معين بدون دلالاتها الواضحة بمجمل الحديث نفسه، لا لتشابه جزء منه مع حدث معين.
وهذا الباب فضلًا عن الغباء الذي ينشره في مجال الفكر السياسي، فإنه يحطم القدرة الشرعية أيضًا على الفهم السليم للنصوص، فمثلًا يتعلقون بعدد من الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة لأنها تشبه بعض الأحداث، ويقولون: إن الواقع يشهد لها، وعلى هذا ينهار علم الحديث تمامًا، فما عليك إلا أن تبتكر حديثًا يشبه الواقع، لتصحح نسبته إلى من تريد! وهذا يخالف أوليات المعرفة في أي علم.
أو يأتون لأحاديث صحيحة، فيسقطونها رأسًا على واقع معين في تاريخ معين، وهذه الطريقة كانت مستعرة في فترة حرب الخليج، وانتشرت صوتيات مشايخ ليس عندهم من شيء يقدمونه سوى أن الفرات يوشك أن يحسر على جبل من ذهب، ثم مع أحداث سورية خرج من قال دابق، ونحو ذلك مستحضرًا أحاديث في غير موضعها، ومع خروج تنظيم الدولة، جاء البعض بأثر لا يصح عن علي بن أبي طالب في أهل الدولة، ونحو ذلك.
على أن بعض الأحاديث قد تكون وضعت لظروف سياسية، مثلًا الرايات السوداء كانت شعار السلطة العباسية، فشيء متوقع أن يأتي من يضع في التحذير منها أو في تأييدها ونحو هذا، فلما أتى تنظيم الدولة: جاء هؤلاء بأحاديث وضعت ضد السلطة العباسية فأسقطوها على هذا فانظر إلى كمية الغباء التي تنتشر بمثل هذا.
فحتى ولو كان الحديث صحيحًا ليست تلك الإسقاطات صحيحة، ومما يبين هذا، ما جاء في صحيح البخاري، عندما حصل صلح الحديبية، فقال عمر بن الخطاب:
أليسَ كان يُحَدِّثُنَا أَنَّا سنَأْتِي البيتَ ونَطُوفُ به؟ (فاحتج بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أنهم سيطوفون بالبيت، وأسقطه على تلك السنة)
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، فأَخْبَرْتُك أَنَّا نَأْتِيه العامَ؟
قلتُ: لا. قال: فإنك آتِيه ومُطَوِّفٌ به. قال الزُّهْرِيُّ: قال عمرُ: فعَمِلْتُ لذلكَ أعمالًا.
فعمل عمر أعمالًا للتكفير هذا الخطأ، ولذا فلا يصح الاحتجاج بفعله، الذي خطأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له ومثله يقال في كل حديث: أأخبرك أنه في عام معين؟ وقد علق ابن القيم على فعل الصحابة في صلح الحديبية بتعليق لطيف: بأنه من الجهد المغفور لا المشكور.
وكيفما كان الأمر، فالأمر تمادى وزاد عن حده، حتى تم تشويه الوعي الفكري والسياسي والتاريخي في أمثال هذا، ويكفي أن يستحضر المرء من العديد ممن يسلكون هذه الطريقة، حديثًا عند كل واقعة، بقطع النظر صحيح هو أم ضعيف، آلة محفوظات، ويترك الواقع الموضوعي المفترض تحليله، ليطير إلى استعراض ابتكاراته الفذة، في ربط الحديث بواقعة مشابهة.
(إسقاط أحاديث الملاحم على التحليل السياسي).
فبدون أن يستحضر المعارف الأولية في الجغرافيا والتاريخ، يطير إلى أحاديث آخر الزمان، لتحليل الأحداث المعاصرة، وإسقاط تلك الأحاديث على وقائع حية، لم يدل دليل واحد ولا شبهة دليل أنها المقصودة في الحديث، وأحاديث آخر الزمان، وذكر الملاحم ونحو ذلك لا يجوز إسقاطها على حدث معين بدون دلالاتها الواضحة بمجمل الحديث نفسه، لا لتشابه جزء منه مع حدث معين.
وهذا الباب فضلًا عن الغباء الذي ينشره في مجال الفكر السياسي، فإنه يحطم القدرة الشرعية أيضًا على الفهم السليم للنصوص، فمثلًا يتعلقون بعدد من الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة لأنها تشبه بعض الأحداث، ويقولون: إن الواقع يشهد لها، وعلى هذا ينهار علم الحديث تمامًا، فما عليك إلا أن تبتكر حديثًا يشبه الواقع، لتصحح نسبته إلى من تريد! وهذا يخالف أوليات المعرفة في أي علم.
أو يأتون لأحاديث صحيحة، فيسقطونها رأسًا على واقع معين في تاريخ معين، وهذه الطريقة كانت مستعرة في فترة حرب الخليج، وانتشرت صوتيات مشايخ ليس عندهم من شيء يقدمونه سوى أن الفرات يوشك أن يحسر على جبل من ذهب، ثم مع أحداث سورية خرج من قال دابق، ونحو ذلك مستحضرًا أحاديث في غير موضعها، ومع خروج تنظيم الدولة، جاء البعض بأثر لا يصح عن علي بن أبي طالب في أهل الدولة، ونحو ذلك.
على أن بعض الأحاديث قد تكون وضعت لظروف سياسية، مثلًا الرايات السوداء كانت شعار السلطة العباسية، فشيء متوقع أن يأتي من يضع في التحذير منها أو في تأييدها ونحو هذا، فلما أتى تنظيم الدولة: جاء هؤلاء بأحاديث وضعت ضد السلطة العباسية فأسقطوها على هذا فانظر إلى كمية الغباء التي تنتشر بمثل هذا.
فحتى ولو كان الحديث صحيحًا ليست تلك الإسقاطات صحيحة، ومما يبين هذا، ما جاء في صحيح البخاري، عندما حصل صلح الحديبية، فقال عمر بن الخطاب:
أليسَ كان يُحَدِّثُنَا أَنَّا سنَأْتِي البيتَ ونَطُوفُ به؟ (فاحتج بخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أنهم سيطوفون بالبيت، وأسقطه على تلك السنة)
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بلى، فأَخْبَرْتُك أَنَّا نَأْتِيه العامَ؟
قلتُ: لا. قال: فإنك آتِيه ومُطَوِّفٌ به. قال الزُّهْرِيُّ: قال عمرُ: فعَمِلْتُ لذلكَ أعمالًا.
فعمل عمر أعمالًا للتكفير هذا الخطأ، ولذا فلا يصح الاحتجاج بفعله، الذي خطأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له ومثله يقال في كل حديث: أأخبرك أنه في عام معين؟ وقد علق ابن القيم على فعل الصحابة في صلح الحديبية بتعليق لطيف: بأنه من الجهد المغفور لا المشكور.
وكيفما كان الأمر، فالأمر تمادى وزاد عن حده، حتى تم تشويه الوعي الفكري والسياسي والتاريخي في أمثال هذا، ويكفي أن يستحضر المرء من العديد ممن يسلكون هذه الطريقة، حديثًا عند كل واقعة، بقطع النظر صحيح هو أم ضعيف، آلة محفوظات، ويترك الواقع الموضوعي المفترض تحليله، ليطير إلى استعراض ابتكاراته الفذة، في ربط الحديث بواقعة مشابهة.
5
إن الغباء الذي تغلف مرارًا بخطاب ديني، لم يكن
مقتصرًا على جانب قليل، فمن ذلك الجبرية في النظرة إلى الواقع، وتظهر هذه المسألة
في الاقتصاد بشكل واضح.
((البعد تمامًا عن التفكير الاقتصادي السليم))
((البعد تمامًا عن التفكير الاقتصادي السليم))
قد يكون المرء نافيًا لنسبته إلى مقالة، ولكن في
الواقع هو متربع في وسط قولها، بل لا تكاد تجد مثالًا على المقالة أوضح من حاله،
ومن طريقة تفكيره، فلربما قال لسنا من الجبرية ولا الاعتزال، ثم هو في صميم الجبر،
وحتى لا يتحول النقاش في هذا إلى كلامي، وفلسفي، نذكر أشهر الأمثلة المعاصرة عليه
(الاقتصاد).
بعض الملتزمين تكاد تلمس في كل كلامه حرجًا من تناول المسألة، فلا يتحدث عن الجانب الاقتصادي بل غالبًا ما يتحدث عن أحكام الجانب الاقتصادي، وهنا فرق كبير بين أن تبحث بمشاكل الاقتصاد والحلول الاقتصادية، وبين أن تبحث عن حكم تلك المسائل، فالحكم هو الطريق الأيسر، أن تقول: هذا لا يجوز، وهذا يجوز، والصعوبة كيف يكون ترك الأول، وكيف يكون سلوك الثاني.
لما يجري الحديث عن الاقتصاد الرأسمالي الذي نعيش في ظله، وعن تعميمه في عصر العولمة، تنكشف تلك الجبرية التي تساند الأخطبوط الرأسمالي بقولها: إن الله وزع الأرزاق، وإن الحياة لابد فيها من توازن لذا كان الغني والفقير، وهذه سنة الحياة.
الأمر شبيه بقول من قال: إن الله وزع العلم والمعرفة، وإن العلم درجات، فهناك عالم وهناك جاهل، وبالتالي لا يمكن محو الأمية، بل لسنا مطالبين به!
إن هؤلاء لا يستوعبون عصرهم البتة، ويريدون التسليم بالأمر الواقع، أو على الأقل الانصراف عنه تمامًا، على أن التأثير الاقتصادي في حياة الجميع صار هو الأشد، من بين العصور السابقة، فاحتكار كل شيء عن طريق الدولة والشركات، جعل عموم الأفراد خاضعين لمنظومة العمل المأجور، لم يعد الأمر متيسرًا كالسابق فهذا يصيد، وهذا يحرث أرضًا لم يملكها، بل لابد أن يملك ولابد أن يرخص له بالصيد.
إن هذه النظرة لم تصرف النظر فحسب عن الاهتمام بالجانب الاقتصادي، بل أزرت به، فكم من شيخ يستسهل الأمر وهو يقول لرجل: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ونحو هذا، دون أي بدائل اقتصادية، بل الأنكى تعميم بعض الاختيارات الفقهية ثم الاكتفاء بهذا، دون أي اهتمام بأي جانب آخر، على سبيل المثال: الدعوة عند البعض إلى النقاب، وتكاثر التصنيفات فيه، ثم عدم الاهتمام بما وراء ذلك، ماذا يمكن لمن سلك هذا الطريق أن يحصل له في مجتمعات متنوعة، ومن شركات لها مواصفاتها التوظيفية التي تتعارض معه.
عدم الاهتمام شبه التام في تقليل ساعات العمل، والمطالبة بزيادة الأجور، بل الأنكى أن البدائل التي صيغت وتصاغ على أنها (إسلامية) لم تكن أرحم من غيرها، بل إنها أثقل على الناس لمجرد احترامهم لمسائل الحلال والحرام، والنتيجة بالنسبة للذبيحة واحدة، إن مرت السكين على رقبتها بتسمية أو بغيرها،
وطريقة إهمال هذا الجانب انعكست على طريقة أولئك الرأسماليين من الإسلاميين، فتجده يعرض عملًا على شاب متدين، ويحدثه عن العمل في الخير، وعن أهمية الحلال، عن كون الشركة تطبع المصاحف، أو تبيع الحجاب والنقاب، وآخر همه أن يعرض عليه سعرًا مناسبًا، هذا إن حدثه عن السعر أصلًا، بل لربما يغفل الحديث عنه تمامًا، ويضحي الأمر تزكية ورقائق للعمل بأجور رخيصة، لو عرضها على غيره لما قبل، لولا استغلاله لعاطفته الدينية، أو لولا عزلته عن الاختيار الأفضل بفعل مظهره وسلوكه الديني في العديد من المجتمعات.
هذا الجانب، يظهر إلى أي درجة بقي هذا الجانب غير مبحوث فيه في معرفة (الواقع الرأسمالي، وكيفية الاغتناء عند الطبقة الرأسمالية) والبعد تمامًا عن مفاهيم (الصراع الطبقي) التي تجتاح العالم وستبقى ما بقيت الآلة الرأسمالية، لحساب تعطيل ملكات الفكر النقدي للواقع، والعيش فيما يشبه الدروشة، لأقوام يغتنون ويثرون على حساب مجموعات من الفقراء ترى أن عملها بتلك الأسعار البائسة جزءًا مكملًا من رحلتها الغريبة على هذه الدنيا، والتي لا تشمل بالضرورة أرباب أعمالها!
بعض الملتزمين تكاد تلمس في كل كلامه حرجًا من تناول المسألة، فلا يتحدث عن الجانب الاقتصادي بل غالبًا ما يتحدث عن أحكام الجانب الاقتصادي، وهنا فرق كبير بين أن تبحث بمشاكل الاقتصاد والحلول الاقتصادية، وبين أن تبحث عن حكم تلك المسائل، فالحكم هو الطريق الأيسر، أن تقول: هذا لا يجوز، وهذا يجوز، والصعوبة كيف يكون ترك الأول، وكيف يكون سلوك الثاني.
لما يجري الحديث عن الاقتصاد الرأسمالي الذي نعيش في ظله، وعن تعميمه في عصر العولمة، تنكشف تلك الجبرية التي تساند الأخطبوط الرأسمالي بقولها: إن الله وزع الأرزاق، وإن الحياة لابد فيها من توازن لذا كان الغني والفقير، وهذه سنة الحياة.
الأمر شبيه بقول من قال: إن الله وزع العلم والمعرفة، وإن العلم درجات، فهناك عالم وهناك جاهل، وبالتالي لا يمكن محو الأمية، بل لسنا مطالبين به!
إن هؤلاء لا يستوعبون عصرهم البتة، ويريدون التسليم بالأمر الواقع، أو على الأقل الانصراف عنه تمامًا، على أن التأثير الاقتصادي في حياة الجميع صار هو الأشد، من بين العصور السابقة، فاحتكار كل شيء عن طريق الدولة والشركات، جعل عموم الأفراد خاضعين لمنظومة العمل المأجور، لم يعد الأمر متيسرًا كالسابق فهذا يصيد، وهذا يحرث أرضًا لم يملكها، بل لابد أن يملك ولابد أن يرخص له بالصيد.
إن هذه النظرة لم تصرف النظر فحسب عن الاهتمام بالجانب الاقتصادي، بل أزرت به، فكم من شيخ يستسهل الأمر وهو يقول لرجل: من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ونحو هذا، دون أي بدائل اقتصادية، بل الأنكى تعميم بعض الاختيارات الفقهية ثم الاكتفاء بهذا، دون أي اهتمام بأي جانب آخر، على سبيل المثال: الدعوة عند البعض إلى النقاب، وتكاثر التصنيفات فيه، ثم عدم الاهتمام بما وراء ذلك، ماذا يمكن لمن سلك هذا الطريق أن يحصل له في مجتمعات متنوعة، ومن شركات لها مواصفاتها التوظيفية التي تتعارض معه.
عدم الاهتمام شبه التام في تقليل ساعات العمل، والمطالبة بزيادة الأجور، بل الأنكى أن البدائل التي صيغت وتصاغ على أنها (إسلامية) لم تكن أرحم من غيرها، بل إنها أثقل على الناس لمجرد احترامهم لمسائل الحلال والحرام، والنتيجة بالنسبة للذبيحة واحدة، إن مرت السكين على رقبتها بتسمية أو بغيرها،
وطريقة إهمال هذا الجانب انعكست على طريقة أولئك الرأسماليين من الإسلاميين، فتجده يعرض عملًا على شاب متدين، ويحدثه عن العمل في الخير، وعن أهمية الحلال، عن كون الشركة تطبع المصاحف، أو تبيع الحجاب والنقاب، وآخر همه أن يعرض عليه سعرًا مناسبًا، هذا إن حدثه عن السعر أصلًا، بل لربما يغفل الحديث عنه تمامًا، ويضحي الأمر تزكية ورقائق للعمل بأجور رخيصة، لو عرضها على غيره لما قبل، لولا استغلاله لعاطفته الدينية، أو لولا عزلته عن الاختيار الأفضل بفعل مظهره وسلوكه الديني في العديد من المجتمعات.
هذا الجانب، يظهر إلى أي درجة بقي هذا الجانب غير مبحوث فيه في معرفة (الواقع الرأسمالي، وكيفية الاغتناء عند الطبقة الرأسمالية) والبعد تمامًا عن مفاهيم (الصراع الطبقي) التي تجتاح العالم وستبقى ما بقيت الآلة الرأسمالية، لحساب تعطيل ملكات الفكر النقدي للواقع، والعيش فيما يشبه الدروشة، لأقوام يغتنون ويثرون على حساب مجموعات من الفقراء ترى أن عملها بتلك الأسعار البائسة جزءًا مكملًا من رحلتها الغريبة على هذه الدنيا، والتي لا تشمل بالضرورة أرباب أعمالها!
6
الغباء يتشكل ويتكثف، ومهما انتسب إلى شيء فلا يحيله
ذكاءً وقادًا، وكان لتشكله عددٌ من المغالطات منها: الخلط بين الإثبات والحصر، وكان
لهذا نتائج كارثية على طريقة التفكير، والبحث، وحتى طرح الحلول وانتظار النتائج.
((الخلط بين الإثبات والحصر))
((الخلط بين الإثبات والحصر))
وهذه المغالطة خلاصة تفكيكها بأنك لما تثبت شيئًا لا
يلزم منه نفي ما سواه، فلما تقول يجوز لبس القميص لا يعني هذا تحريم أي لبس غيره،
وهذه المغالطة على وجازتها إلا أنها الأكثف في سيل الخطابات الغبية التي تحدثت
باسم الدين.
وعلى سبيل المثال إثبات الآخرة، هل يكون في هذا حصر للوجود بها، بحيث تنفي وجود الدنيا؟ نظريًا لا، لكن تكثفت العديد من الخطابات على جانب الحصر، وإليك بعض الأمثلة:
يثبت المؤمن وجود الله عز وجل، لكن هل يلزم من إثباته لله أن ينفي وجود غيره؟ عرف هذا القول في تاريخ المقالات بوحدة الوجود، بمعنى أن الوجود واحد، وبالتالي فإن وجود الله هو الوجود الوحيد وهذا القول يهدم الدين من أساسه فعليه تضحي الأصنام وغيرها هي الله، وكذلك النجاسات ونحو ذلك.
بهذه الصورة قد يتفق عدد كبير من الناس، لكن ماذا لو مددنا الأمر أكثر لنعرف أثر الخلط بين الإثبات والحصر.
تبدأ الحكاية عند بعض الفرق بإثبات أن لا خالق إلا الله، ثم تمتد الحكاية إلى لا فاعل إلا هو، ولا مؤثر إلا هو، وبهذا يضحي وجود غيره شبحيًا غامضًا، فما معنى لا مؤثر إلا هو؟ بماذا سيختلف عن لا موجود إلا هو؟ فإثبات موجود غير الله لا يفترض أن يعارض وجود الله، فما بال هذا أضحى صعبًا في إثبات تأثير المخلوقات، وطبائعها، وخواصها؟ وهل التأثير أو الخاصية إلا صفة لموجود فحسب.
بهذه الطريقة لم يعد للنار خاصية تختلف عن الماء، ولا للهواء عن المواد الصلبة، فهي كلها من الله، وآثارها ليست لأي خاصية فيها، بل هي مباشرة من الله.
إن هذه النظرة تحيل العالم إلى مجرد تأمل لاهوتي لا وجود حقيقي للعالم، كما لا تأثير حقيقي للأشياء.
وبهذا المعنى لو طرد ما معنى أن تأخذ بالأسباب، أن تتنفس، أن تدخل الإسلام نفسه كدين.
الخلط بين الإثبات والحصر كثير، ومنه إثبات البعد الأخلاقي للدين، وهذا حق، لكن أن تحصر الأخلاق في الدين، يوقعك في إشكالات كبيرة، فما من مجتمع إنساني مر في يوم من الأيام إلا وفيه بعدٌ أخلاقي (بقطع النظر عن الحكم المعياري على كل خلق من أخلاقه)، فكما أن الدين يدل على الخلق، بالتفصيل، فإن العقول البشرية تستحسن الحسن وتستقبح القبيح في الأخلاق، وبهذا تجد أقوامًا يندفعون في إثبات ما عندهم إلى نفي ما عند غيرهم، وهذا هو الحيف.
كذلك الأمر في تيارات تمسكت بالسنة وهذا خير وإثبات، ثم حصرت الخير فيما عرفوه من الرواية وبهذا وقعوا في تضاد مع الرأي كالقياس، والضوابط والقواعد الكلية، وهذا أوقعهم في إشكالات كبيرة، والعكس صحيح، فهذا عنده من الفقه الشيء الكثير، فيدفعه هذا إلى نفي غير ذلك والإزراء على أهل الحديث والرواية، وهل التعصب إلا خلط بين الإثبات والحصر؟
كذلك اهتمام العديد من السلفيين بالتوحيد، وهذا إثبات، لكن التعامل معه وكأنه الشيء الوحيد في الدين، وكأنه لا فروع ولا أصول غير ما يثبتونه، وبهذا تنقضي الأعمار، في كتيبات تتعرض لإبطال عبادة غير الله، وهذا أبجدي في العلوم الشرعية، فمتى يترقون لإثبات غيره، ومتى يتعلمون غيره أصلًا وقد انحصروا في جانب؟
كذلك في طريقة مناظرة البعض في الفقه، فيطالب بالدليل المخصوص على جواز شيء معين، فإن عدم الدليل الخاص، يحسب أن المسألة لا تجوز، أو هي بدعة، وهذا تحطيم تام للبناء الفقهي، فإثبات دليل لا يلزم منه انتفاء المدلول حين لا يوجد دليله الخاص، فهناك قواعد كلية، كالأصل في الأشياء الإباحة، لا أن كل شيء لم يثبت فيه حديث لا يجوز أو يتوقف في حله.
وهذه الطريقة يتغافل البعض عنها في النظر الفقهي، فحسبهم أن يضعفوا حديثًا حتى يردوا قولًا فقهيًا تخيلوا أنه انبنى عليه، وقد يكون الحديث ضعيفًا، لكنه مسنود بقياس، أو هو مرسل عليه عمل الصحابة، ونحو ذلك، فالأدلة مراتب ودرجات، ولا يلزم من انتفاء درجة انتفاء باقي الدرجات.
يتبع إن شاء الله.
وعلى سبيل المثال إثبات الآخرة، هل يكون في هذا حصر للوجود بها، بحيث تنفي وجود الدنيا؟ نظريًا لا، لكن تكثفت العديد من الخطابات على جانب الحصر، وإليك بعض الأمثلة:
يثبت المؤمن وجود الله عز وجل، لكن هل يلزم من إثباته لله أن ينفي وجود غيره؟ عرف هذا القول في تاريخ المقالات بوحدة الوجود، بمعنى أن الوجود واحد، وبالتالي فإن وجود الله هو الوجود الوحيد وهذا القول يهدم الدين من أساسه فعليه تضحي الأصنام وغيرها هي الله، وكذلك النجاسات ونحو ذلك.
بهذه الصورة قد يتفق عدد كبير من الناس، لكن ماذا لو مددنا الأمر أكثر لنعرف أثر الخلط بين الإثبات والحصر.
تبدأ الحكاية عند بعض الفرق بإثبات أن لا خالق إلا الله، ثم تمتد الحكاية إلى لا فاعل إلا هو، ولا مؤثر إلا هو، وبهذا يضحي وجود غيره شبحيًا غامضًا، فما معنى لا مؤثر إلا هو؟ بماذا سيختلف عن لا موجود إلا هو؟ فإثبات موجود غير الله لا يفترض أن يعارض وجود الله، فما بال هذا أضحى صعبًا في إثبات تأثير المخلوقات، وطبائعها، وخواصها؟ وهل التأثير أو الخاصية إلا صفة لموجود فحسب.
بهذه الطريقة لم يعد للنار خاصية تختلف عن الماء، ولا للهواء عن المواد الصلبة، فهي كلها من الله، وآثارها ليست لأي خاصية فيها، بل هي مباشرة من الله.
إن هذه النظرة تحيل العالم إلى مجرد تأمل لاهوتي لا وجود حقيقي للعالم، كما لا تأثير حقيقي للأشياء.
وبهذا المعنى لو طرد ما معنى أن تأخذ بالأسباب، أن تتنفس، أن تدخل الإسلام نفسه كدين.
الخلط بين الإثبات والحصر كثير، ومنه إثبات البعد الأخلاقي للدين، وهذا حق، لكن أن تحصر الأخلاق في الدين، يوقعك في إشكالات كبيرة، فما من مجتمع إنساني مر في يوم من الأيام إلا وفيه بعدٌ أخلاقي (بقطع النظر عن الحكم المعياري على كل خلق من أخلاقه)، فكما أن الدين يدل على الخلق، بالتفصيل، فإن العقول البشرية تستحسن الحسن وتستقبح القبيح في الأخلاق، وبهذا تجد أقوامًا يندفعون في إثبات ما عندهم إلى نفي ما عند غيرهم، وهذا هو الحيف.
كذلك الأمر في تيارات تمسكت بالسنة وهذا خير وإثبات، ثم حصرت الخير فيما عرفوه من الرواية وبهذا وقعوا في تضاد مع الرأي كالقياس، والضوابط والقواعد الكلية، وهذا أوقعهم في إشكالات كبيرة، والعكس صحيح، فهذا عنده من الفقه الشيء الكثير، فيدفعه هذا إلى نفي غير ذلك والإزراء على أهل الحديث والرواية، وهل التعصب إلا خلط بين الإثبات والحصر؟
كذلك اهتمام العديد من السلفيين بالتوحيد، وهذا إثبات، لكن التعامل معه وكأنه الشيء الوحيد في الدين، وكأنه لا فروع ولا أصول غير ما يثبتونه، وبهذا تنقضي الأعمار، في كتيبات تتعرض لإبطال عبادة غير الله، وهذا أبجدي في العلوم الشرعية، فمتى يترقون لإثبات غيره، ومتى يتعلمون غيره أصلًا وقد انحصروا في جانب؟
كذلك في طريقة مناظرة البعض في الفقه، فيطالب بالدليل المخصوص على جواز شيء معين، فإن عدم الدليل الخاص، يحسب أن المسألة لا تجوز، أو هي بدعة، وهذا تحطيم تام للبناء الفقهي، فإثبات دليل لا يلزم منه انتفاء المدلول حين لا يوجد دليله الخاص، فهناك قواعد كلية، كالأصل في الأشياء الإباحة، لا أن كل شيء لم يثبت فيه حديث لا يجوز أو يتوقف في حله.
وهذه الطريقة يتغافل البعض عنها في النظر الفقهي، فحسبهم أن يضعفوا حديثًا حتى يردوا قولًا فقهيًا تخيلوا أنه انبنى عليه، وقد يكون الحديث ضعيفًا، لكنه مسنود بقياس، أو هو مرسل عليه عمل الصحابة، ونحو ذلك، فالأدلة مراتب ودرجات، ولا يلزم من انتفاء درجة انتفاء باقي الدرجات.
يتبع إن شاء الله.
7
من الأمور التي تتحرك في إطار من البلادة، تفسير بعض
الظواهر ببعض المحفوظات، لا دراسة الظواهر نفسها، وعلى هذا فإن عددًا كبيرًا مما
يُزعم فيه أنه سحر أو كرامة، يتم نقل الحديث فيه عن عقيدة أهل السنة والمعتزلة،
والصحيح أنه كان يفترض دراسة الظاهرة نفسها، وتفسيرها بأقرب الطرق العلمية لا
بنقاش حول أصل الكرامة والسحر ونحو هذا.
في رحلة صناعة السيوف عبر التاريخ، يقال-حسب بعض الأساطير-بأن الآلهة قدمت طريقة لصناعة بعض السيوف، مثل سيف الكاتانا الياباني، وعند الفايكنج كانوا يقومون بعملية سحرية، أنتجت واحدًا من أصلب السيوف في عصره، أحد الدارسين يقول بأن صناعة السيف عند الفايكنج كانت عن طريق حرق عظام الأسلاف، ثم خلطه بالحديد وصهره، وبهذا تحل روح الأجداد في السيف فيكتسب قوة، وبحق كانت السيوف تتصلب بعد هذه العملية، وتستطيع خرق الدروع، بل وكسر بعض سيوف العدو.
فما تفسير هذه الظاهرة؟ هل يكون بالنقاش حول الكرامة، أو السحر؟ عن تدخل الشياطين بشكل مباشر في تصليب السيف عن طريق القرابين؟ كل هذا بعيد عما حصل، الواقع إن حرق العظام سيخلف مادة الكربون، وهي التي ستجعل من الحديد فولاذًا بعد اتحادها به!
فانظر إلى هذه التفسير، كم هو بعيد عن حلقات طويلة من إدخال عوامل خارقة للطبيعة في هذه العملية، ومن عرف هذه الطريقة سيقدر على إنتاج الفولاذ مرارًا، دون ربطه بقوى خارقة وبدون حرق العظام، فالتأثير للكربون، لا لخصوصية العظام نفسها.
وفي هذا يفترض تحليل القصص التي تتحدث عن العديد من الخوارق، ومحاولة تفسيرها بطرق علمية، لكن في إطار مغلق من الانغلاق الذهني، يبدأ الحديث عن كرامة، أو سحر، بشكل مباشر دون حاجة من القائلين إلى دراسة الظاهرة المقصودة، مما يعيق بشكل مباشر فهم ما يحدث، وتعطيل العقل عن تلمس الحقيقة.
في كتاب (التاريخ الأسود) وهو إنتاج مجموعة من السوفييت، عن تاريخ وكالة المخابرات الأمريكية، تحدث المؤلفون عن طريقة عمل بها الأمريكون في الفلبين، وذلك عن طريق استئجار بعض القساوسة في الكنائس، وتخويف الناس من مناطق تسكنها الجن، وبهذا امتنع الناس من الذهاب إليها، وقد تملكهم شبح الرعب من أن تؤذيهم تلك الشيطان.
الواقع كان بأن المخابرات الأمريكية قد أقامت مجموعة من المقرات لها هناك، وبتلك الطريقة منعت أن يحوم الناس حول تلك المقرات طواعية بدافع من الأساطير التي حاكها القساوسة المستأجرون، والتي تلقفها قساوسة لم يعرفوا مصدر قصصهم، لكنهم أيضًا رددوها، وبهذا عطلوا آليات التفكير.
وفي هذا الإطار قصص كثيرة لا تكاد تعد ولا تحصى، تنتشر في الأوساط الدينية، عن كرامات مفترضة، أو قدرات سحرية خارقة، ولا يكلف الكثير من الناس أنفسهم عناء التفكير السليم ودراسة تلك الظواهر، بقدر ما يحرصون على زج آرائهم مباشرة فيها، فهذا يقول إنها كرامة، أو سحر، ثم يقفز مباشرة إلى النقاش عن الإمكان العقلي، وعن النصوص الشرعية، والواقع بأن تلك الظواهر أول ما يفترض أن يحصل دراستها هي نفسها، وفهمها ومحاولة تفسيرها بأقرب الطرق علمية.
في الحرب الأفغانية 1979-1989 كانت تساق العديد من القصص حول الكرامات، مثل إن مجموعة من المقاتلين وقعت بينهم قذيفة لكنها لم تؤذهم، وكانوا يحملون الأمر رأسًا على أنه كرامة، في حين تنبه العديد من الغربيين إلى وجود مشكلة في الصناعة السوفيتية بهذه الطريقة، بل وكان يمكن معرفة أن الاتحاد السوفيتي يشهد قلاقل في المصانع، وتذمر من العمال، مما جعل صناعتهم ليست بالكفاءة المرجوة، وهذا كله يتبخر عندما كان يتم حمل الأمر رأسًا على أنه كرامة، ثم القفز إلى النقاش في أقوال الفرق الإسلامية فيها!
في رحلة صناعة السيوف عبر التاريخ، يقال-حسب بعض الأساطير-بأن الآلهة قدمت طريقة لصناعة بعض السيوف، مثل سيف الكاتانا الياباني، وعند الفايكنج كانوا يقومون بعملية سحرية، أنتجت واحدًا من أصلب السيوف في عصره، أحد الدارسين يقول بأن صناعة السيف عند الفايكنج كانت عن طريق حرق عظام الأسلاف، ثم خلطه بالحديد وصهره، وبهذا تحل روح الأجداد في السيف فيكتسب قوة، وبحق كانت السيوف تتصلب بعد هذه العملية، وتستطيع خرق الدروع، بل وكسر بعض سيوف العدو.
فما تفسير هذه الظاهرة؟ هل يكون بالنقاش حول الكرامة، أو السحر؟ عن تدخل الشياطين بشكل مباشر في تصليب السيف عن طريق القرابين؟ كل هذا بعيد عما حصل، الواقع إن حرق العظام سيخلف مادة الكربون، وهي التي ستجعل من الحديد فولاذًا بعد اتحادها به!
فانظر إلى هذه التفسير، كم هو بعيد عن حلقات طويلة من إدخال عوامل خارقة للطبيعة في هذه العملية، ومن عرف هذه الطريقة سيقدر على إنتاج الفولاذ مرارًا، دون ربطه بقوى خارقة وبدون حرق العظام، فالتأثير للكربون، لا لخصوصية العظام نفسها.
وفي هذا يفترض تحليل القصص التي تتحدث عن العديد من الخوارق، ومحاولة تفسيرها بطرق علمية، لكن في إطار مغلق من الانغلاق الذهني، يبدأ الحديث عن كرامة، أو سحر، بشكل مباشر دون حاجة من القائلين إلى دراسة الظاهرة المقصودة، مما يعيق بشكل مباشر فهم ما يحدث، وتعطيل العقل عن تلمس الحقيقة.
في كتاب (التاريخ الأسود) وهو إنتاج مجموعة من السوفييت، عن تاريخ وكالة المخابرات الأمريكية، تحدث المؤلفون عن طريقة عمل بها الأمريكون في الفلبين، وذلك عن طريق استئجار بعض القساوسة في الكنائس، وتخويف الناس من مناطق تسكنها الجن، وبهذا امتنع الناس من الذهاب إليها، وقد تملكهم شبح الرعب من أن تؤذيهم تلك الشيطان.
الواقع كان بأن المخابرات الأمريكية قد أقامت مجموعة من المقرات لها هناك، وبتلك الطريقة منعت أن يحوم الناس حول تلك المقرات طواعية بدافع من الأساطير التي حاكها القساوسة المستأجرون، والتي تلقفها قساوسة لم يعرفوا مصدر قصصهم، لكنهم أيضًا رددوها، وبهذا عطلوا آليات التفكير.
وفي هذا الإطار قصص كثيرة لا تكاد تعد ولا تحصى، تنتشر في الأوساط الدينية، عن كرامات مفترضة، أو قدرات سحرية خارقة، ولا يكلف الكثير من الناس أنفسهم عناء التفكير السليم ودراسة تلك الظواهر، بقدر ما يحرصون على زج آرائهم مباشرة فيها، فهذا يقول إنها كرامة، أو سحر، ثم يقفز مباشرة إلى النقاش عن الإمكان العقلي، وعن النصوص الشرعية، والواقع بأن تلك الظواهر أول ما يفترض أن يحصل دراستها هي نفسها، وفهمها ومحاولة تفسيرها بأقرب الطرق علمية.
في الحرب الأفغانية 1979-1989 كانت تساق العديد من القصص حول الكرامات، مثل إن مجموعة من المقاتلين وقعت بينهم قذيفة لكنها لم تؤذهم، وكانوا يحملون الأمر رأسًا على أنه كرامة، في حين تنبه العديد من الغربيين إلى وجود مشكلة في الصناعة السوفيتية بهذه الطريقة، بل وكان يمكن معرفة أن الاتحاد السوفيتي يشهد قلاقل في المصانع، وتذمر من العمال، مما جعل صناعتهم ليست بالكفاءة المرجوة، وهذا كله يتبخر عندما كان يتم حمل الأمر رأسًا على أنه كرامة، ثم القفز إلى النقاش في أقوال الفرق الإسلامية فيها!
8
تحركت البلادة في كل إطار سمح لها بهذا، وبالتالي
يفترض مراجعة الخطابات التي تحركت في إطارها، ومن ذلك تلك الألفاظ المبهمة المصطنعة،
التي قيلت في كثير من الناس، دون أن تفهم منها معرفة معينة، ومنها ذلك التوصيف:
((الداعية))
((الداعية))
الذي يطالع كتب الطبقات، والسير، والتراجم، والتاريخ،
سيجد في ترجمة العديد من الناس، أوصافًا تنبي عن معارفهم التي تميزوا بها: الحافظ،
الأصولي، الفقيه، المقرئ، المتكلم، الفيلسوف، الخطيب، الواعظ، ولا تكاد تجد
((الداعية)) لأن هذا الوصف مبهمًا، وغير محدد، بل إن هذا الوصف انتشر في تراجم
الإسماعيلية، يقولون: الداعي أبو يعقوب السجستاني، الداعي أبو حنيفة (وهو أحد أئمة
الإسماعيلية ليس الفقيه المشهور).
كانت دعوة الإسماعيلية منفصلة عن المجتمع، وبالتالي كان أئمتها يسمون بالداعية، يدعون مجتمعات غريبة عن معتقداتهم، أجنبية عن موافقة ما يقولونه، في حين كان يعرف من يذكر المجتمع في الوسط السني بالواعظ، وهنا فرق بين الأمرين، فالواعظ ليس منعزلًا عن مجتمعه، بل هو منخرط فيه، مشارك له، موالٍ لعمومه، لا يفترض فيمن يسمعه أنه جاهل تمامًا بما يقول، أو أنه عامي، بل يريد تحريض ما يعرفه المستمع، ليضحي فعلًا وسلوكًا لا مجرد معرفة نظرية، ولذا قد يعظ الواعظ عالمًا أعلم منه، بخلاف الداعية الذي يحمل مثلًا الدعوة الإسماعيلية وينشرها في مناطق لا تنتمي إليه، ولا ينتمي إليها ولاءً على الأقل.
في القرن 20 صار وصف الداعية مستسهلًا جدًا، وصار يطلق على أي واعظ أو خطيب، فهو داعية، وغيره دعاة، ونحو ذلك، وبهذا تم تجاوز التخصصات من فقيه، واعظ، خطيب، إلخ.
وقد أشار علماء الأصول كابن حزم، أن طالب العلم لا يتصدر للإنكار والخلاف والترجيح ونحو ذلك في مرحلة الطلب، بل يدرس ما يؤهله فيما بعد لذلك، وتلك الأوصاف في كتب التراجم كانت تحدد طبيعة معرفة المقصود، فما هي مؤهلات الأخ (الداعية)؟ لا يظهر أي شيء من هذا الاصطلاح، بل أوقع من أطلق عليهم هذا بمشاكل متعددة.
من تلك المشاكل، أنه شابٌ عنده بعض الثقافة الدينية، يضحي لا يمسك عنان لسانه في غير ما يعرفه، بل حتى الشاب الصغير لما يقولون له أنت داعية، لا يجد وقتًا ليبتعد عن الناس، ودعوتهم، لينشغل بإعداد نفسه علميًا وفكريًا ونفسيًا، بل يسارع ليتصدّر، وذلك الهرم الذي لم يفنِ شبابه في طلب العلم صار بحكم شيبته ومظهر لحيته مفتيًا في الشرق والغرب، مخاطبًا مجتمعات غريبة عنه، قد لا يفهم خصوصياتها ولا طبيعة مشاكلها لا السياسية ولا الاجتماعية، لكنه (داعية).
إن هذا اللقب اكتسب بعدًا حركيًا في بعض الأحزاب الإسلامية، حتى لا يكادون يتخاطبون بينهم إلا بخطاب (أخي الداعية، أو أختي الداعية) ويقصدون عمليًا ذلك المنتمي لأطروحاتهم، بمجملها، وبالتالي يضحي لقب الدعوة بمعنى نشر نفوذهم الحزبي، وبالتالي تصوراتهم السياسية، وتختلط المسائل، فهو يدعو إلى حزب سياسي في أحسن الأحوال مطعمًا ذلك بشيء من نكهة العاطفة الدينية، وفي نفس الوقت أورثهم تعاليًا نفسيًا على المجتمع، ففرق بين أن تكون خطيبًا أو واعظًا في مجتمع، وبين أن تكون داعية فيه!
كان لهذا الاصطلاح بما حواه من معانٍ نتائج كارثية على الكثيرين ممن حملوه، أو ممن أطلقوه عليهم، وابتذل فيه العلم الشرعي، وبدل أن يقال: هل هو أصولي، فقيه، متكلم.... صار وصف الداعية مغطيًا على نقص هذا فيه، وصار نموذجًا للشهرة يحب الكثيرون أن يقلدوها، حتى حصلت طفرة في فترة تاريخية، من تتابع العديد من الشباب فيما عرف بـ (الدعاة الجدد)، وصارت أخطاؤهم حملًا ثقيلًا.
والأحرى هو العودة إلى ذلك التقسيم الرصين، فهذا واعظ، وذلك فقيه، وهذا أصولي، أو هو كل ذلك، ولا إشكال، أما مع أوصاف تعميمية لا تظهر الأداء الموضوعي للشخص المقصود، فقد أوقعت في مشاكل، وتسلق عبرها الكثير من الأغبياء، لما وجدوا الباب مفتوحًا على مصراعيه.
كانت دعوة الإسماعيلية منفصلة عن المجتمع، وبالتالي كان أئمتها يسمون بالداعية، يدعون مجتمعات غريبة عن معتقداتهم، أجنبية عن موافقة ما يقولونه، في حين كان يعرف من يذكر المجتمع في الوسط السني بالواعظ، وهنا فرق بين الأمرين، فالواعظ ليس منعزلًا عن مجتمعه، بل هو منخرط فيه، مشارك له، موالٍ لعمومه، لا يفترض فيمن يسمعه أنه جاهل تمامًا بما يقول، أو أنه عامي، بل يريد تحريض ما يعرفه المستمع، ليضحي فعلًا وسلوكًا لا مجرد معرفة نظرية، ولذا قد يعظ الواعظ عالمًا أعلم منه، بخلاف الداعية الذي يحمل مثلًا الدعوة الإسماعيلية وينشرها في مناطق لا تنتمي إليه، ولا ينتمي إليها ولاءً على الأقل.
في القرن 20 صار وصف الداعية مستسهلًا جدًا، وصار يطلق على أي واعظ أو خطيب، فهو داعية، وغيره دعاة، ونحو ذلك، وبهذا تم تجاوز التخصصات من فقيه، واعظ، خطيب، إلخ.
وقد أشار علماء الأصول كابن حزم، أن طالب العلم لا يتصدر للإنكار والخلاف والترجيح ونحو ذلك في مرحلة الطلب، بل يدرس ما يؤهله فيما بعد لذلك، وتلك الأوصاف في كتب التراجم كانت تحدد طبيعة معرفة المقصود، فما هي مؤهلات الأخ (الداعية)؟ لا يظهر أي شيء من هذا الاصطلاح، بل أوقع من أطلق عليهم هذا بمشاكل متعددة.
من تلك المشاكل، أنه شابٌ عنده بعض الثقافة الدينية، يضحي لا يمسك عنان لسانه في غير ما يعرفه، بل حتى الشاب الصغير لما يقولون له أنت داعية، لا يجد وقتًا ليبتعد عن الناس، ودعوتهم، لينشغل بإعداد نفسه علميًا وفكريًا ونفسيًا، بل يسارع ليتصدّر، وذلك الهرم الذي لم يفنِ شبابه في طلب العلم صار بحكم شيبته ومظهر لحيته مفتيًا في الشرق والغرب، مخاطبًا مجتمعات غريبة عنه، قد لا يفهم خصوصياتها ولا طبيعة مشاكلها لا السياسية ولا الاجتماعية، لكنه (داعية).
إن هذا اللقب اكتسب بعدًا حركيًا في بعض الأحزاب الإسلامية، حتى لا يكادون يتخاطبون بينهم إلا بخطاب (أخي الداعية، أو أختي الداعية) ويقصدون عمليًا ذلك المنتمي لأطروحاتهم، بمجملها، وبالتالي يضحي لقب الدعوة بمعنى نشر نفوذهم الحزبي، وبالتالي تصوراتهم السياسية، وتختلط المسائل، فهو يدعو إلى حزب سياسي في أحسن الأحوال مطعمًا ذلك بشيء من نكهة العاطفة الدينية، وفي نفس الوقت أورثهم تعاليًا نفسيًا على المجتمع، ففرق بين أن تكون خطيبًا أو واعظًا في مجتمع، وبين أن تكون داعية فيه!
كان لهذا الاصطلاح بما حواه من معانٍ نتائج كارثية على الكثيرين ممن حملوه، أو ممن أطلقوه عليهم، وابتذل فيه العلم الشرعي، وبدل أن يقال: هل هو أصولي، فقيه، متكلم.... صار وصف الداعية مغطيًا على نقص هذا فيه، وصار نموذجًا للشهرة يحب الكثيرون أن يقلدوها، حتى حصلت طفرة في فترة تاريخية، من تتابع العديد من الشباب فيما عرف بـ (الدعاة الجدد)، وصارت أخطاؤهم حملًا ثقيلًا.
والأحرى هو العودة إلى ذلك التقسيم الرصين، فهذا واعظ، وذلك فقيه، وهذا أصولي، أو هو كل ذلك، ولا إشكال، أما مع أوصاف تعميمية لا تظهر الأداء الموضوعي للشخص المقصود، فقد أوقعت في مشاكل، وتسلق عبرها الكثير من الأغبياء، لما وجدوا الباب مفتوحًا على مصراعيه.
9
ومن الخطابات التي زادت البلادة، وساهمت في الابتعاد
عن الفقه في موازنة الأمور، السياسية والاجتماعية، لحساب ما هو أجنبي عنه، ومن ذلك:
((الاحتكام إلى الأمثال، والصور البلاغية))
((الاحتكام إلى الأمثال، والصور البلاغية))
فتجد واحدًا يحتد في موقف، ويزايد على أهله، وكل
بضاعته الخطابية بناها على مثل عربي (تموت الحرة ولا تأكل بثدييها) ولا تعرف كيف
استنبط هذا من ذاك، وهذا المثل بيان لما كانت العرب تأنفه من أن تأخذ المرضع أجرًا
لقاء إرضاعها ولد غيرها، وليس هو في تسليم نفسها لغيرها كما يحسبه بعض الجهال،
ويقال في مثل هذا، ما شأن الأمثال في موازنة الأمور شرعًا، وفي كتاب الله: (وإن
أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف) فيجوز أن
ترضع ولد غيرها، ويجوز أن تأخذ أجرًا عليه، بقطع النظر هل كان قائل ذلك المثل
يرضاه أو يكرهه، فليس هذا المثل من أدلة الشريعة.
وهكذا تجد مجموعة من القواعد التي تنتشر في الوسط الإسلامي، مما لا وزن لها في بناء الأحكام، (أهل مكة أدرى بشعابها) لمن أراد إسكات غيره عن التدخل في حزبه أو فئته، وهذا لو طرد لما قبل قول أحد في غيره، فكل امرئ أدرى بنفسه من غيره!
أو القول: (الداعية يؤثر ولا يتأثر) فهذه قواعد ما أنزل الله بها من سلطان، (لا يفتي قاعد لمجاهد)، (الدين جهد أقدام لا سطور أقلام) للحط على الكتابة والعلم، لحساب الحركة، ولو عن جهل، وهذا وأمثاله غير صحيح، بل تجد في كل جماعة مجموعة قواعد وأمثال، لا تعرف لها زمامًا من خطام.
أو كالاحتجاج على العلم بالعمل! بأن (قومًا قدموا وضحوا وبالتالي فهم أعلم)، أو (كلما زاد علم المرء قل كلامه)، وهذا أيضًا ليس من القواعد الشرعية، فقد يتحدث كثيرًا، ويكتب مصنفات كبيرة، ويستدل بذلك على غزارة علمه، أو (كلما زاد عمل المرء قل نقده)، وهذه ليست قاعدة شرعية، فهناك من العلماء لا تكاد تجد لهم قولًا إلا في النقد، كيحيى بن معين.
وبالجملة فكثير من القواعد المذكورة، بنيت على الذوق، أو تجربة شخصية، أو حرص مصلحي، أو غير ذلك، فلا يجوز تعميمها.
وهذه الأمثال، ونحوها عززت من البلادة، بل جعلتها في قالبٍ من الذكاء، وعادة أي معرفة غبية متى وضعت في صيغة عامة، وفصيحة، فإنها تحيط نفسها بهالة تمنعها من النقد، وتمر وكأنه قد تعاقب العلماء على صياغتها، وعند التدقيق ليس فيها من المعرفة إلا ما في الجهل المركب.
وقد ألف جوليان باجيني، كتابًا بعنوان (هل تحكم على الكتاب من عنوانه؟) وفيه 100 مثل، يتعرض لها بالنقد، مبينًا أن تلك الأمثال تعزز البلادة، كونها تستثير التسويغات، فإن اتخذت موقفًا ستجد مثلًا يؤكده، وإن اتخذت نقيضه لن تعدم من الأمثلة ما يقابلها، ونحو هذا.
وبديل ذلك التفكير بآليات سليمة، ومنها التحاكم إلى النظرة الفقهية، بدل هذه الأمثال والحِكم التي تعزز الدفاع عن مواقف ارتجالية، ولا تصوغ في التفكير إلا جانب التسويغ فحسب.
وهكذا تجد مجموعة من القواعد التي تنتشر في الوسط الإسلامي، مما لا وزن لها في بناء الأحكام، (أهل مكة أدرى بشعابها) لمن أراد إسكات غيره عن التدخل في حزبه أو فئته، وهذا لو طرد لما قبل قول أحد في غيره، فكل امرئ أدرى بنفسه من غيره!
أو القول: (الداعية يؤثر ولا يتأثر) فهذه قواعد ما أنزل الله بها من سلطان، (لا يفتي قاعد لمجاهد)، (الدين جهد أقدام لا سطور أقلام) للحط على الكتابة والعلم، لحساب الحركة، ولو عن جهل، وهذا وأمثاله غير صحيح، بل تجد في كل جماعة مجموعة قواعد وأمثال، لا تعرف لها زمامًا من خطام.
أو كالاحتجاج على العلم بالعمل! بأن (قومًا قدموا وضحوا وبالتالي فهم أعلم)، أو (كلما زاد علم المرء قل كلامه)، وهذا أيضًا ليس من القواعد الشرعية، فقد يتحدث كثيرًا، ويكتب مصنفات كبيرة، ويستدل بذلك على غزارة علمه، أو (كلما زاد عمل المرء قل نقده)، وهذه ليست قاعدة شرعية، فهناك من العلماء لا تكاد تجد لهم قولًا إلا في النقد، كيحيى بن معين.
وبالجملة فكثير من القواعد المذكورة، بنيت على الذوق، أو تجربة شخصية، أو حرص مصلحي، أو غير ذلك، فلا يجوز تعميمها.
وهذه الأمثال، ونحوها عززت من البلادة، بل جعلتها في قالبٍ من الذكاء، وعادة أي معرفة غبية متى وضعت في صيغة عامة، وفصيحة، فإنها تحيط نفسها بهالة تمنعها من النقد، وتمر وكأنه قد تعاقب العلماء على صياغتها، وعند التدقيق ليس فيها من المعرفة إلا ما في الجهل المركب.
وقد ألف جوليان باجيني، كتابًا بعنوان (هل تحكم على الكتاب من عنوانه؟) وفيه 100 مثل، يتعرض لها بالنقد، مبينًا أن تلك الأمثال تعزز البلادة، كونها تستثير التسويغات، فإن اتخذت موقفًا ستجد مثلًا يؤكده، وإن اتخذت نقيضه لن تعدم من الأمثلة ما يقابلها، ونحو هذا.
وبديل ذلك التفكير بآليات سليمة، ومنها التحاكم إلى النظرة الفقهية، بدل هذه الأمثال والحِكم التي تعزز الدفاع عن مواقف ارتجالية، ولا تصوغ في التفكير إلا جانب التسويغ فحسب.
10
وعلى صعيد التصور للواقع، كان هناك عدة منظومات تحرك
في إطارها الغباء مطلًا برأسه مرارًا في القرن 20، وحتى القرن 21، ومن ذلك:
((التركيز على الفرد، وإغفال جانب العلاقات))
((التركيز على الفرد، وإغفال جانب العلاقات))
فكثيرًا ما دار إسلاميون في الحديث عن دور الفرد،
سواء في التاريخ، أو في المجتمع، من باب (أصلح الفرد تصلح المجتمع)، أو أن الحل
بقائد كصلاح الدين ونحو هذا، في إغفال شبه تام لدور العلاقات، بين الأفراد، لا
الأفراد أنفسهم، ففي الحديث عن الأفراد كان هناك حديث مطوّل عن (التزكية والتصفية)
للأفراد، في الوقت الذي كان الغرب قد انتشر فيه الكثير من الأفكار والفلسفات
المعنية بالنسق الاجتماعي، وتحليل العلاقات، ونقدها، وطرح البدائل، حتى إن في كثير
من المؤسسات والأنظمة لم يعد الاهتمام بالفرد تحت جانب الخصوصية، والحرية الفردية،
لحساب العلاقات، وفق ضبط القوانين والرقابة.
إن التركيز على جانب العلاقات بين الأفراد قد لا ينتج صالحين، كما هو الحال في التزكية والتربية والتصفية ونحو هذا، لكنه يمنع الفساد قدر الطاقة، حتى ولو أراد الفرد الفساد سيخشى من علاقة (الرقابة) في النظام الذي يعمل به، إنها تفرز نظامًا قويًا، أما في جانب الأفراد فقد تنتج صالحين، ولكن عند الحديث عن العلاقات، لن تضمن أن يستمر في صلاحه عندما يوضع في موقع مسؤول، وبنفس الوقت، لا آلية حقيقية لمنع فساد الفاسد ولا دحر نفوذه، وقد تنبه أوليفيه راوا لهذه القضية، فقال غلب عليهم عقل الفرد لا المؤسسة.
إن الحديث عن الفرد مطولًا انعكس على فهم الكثيرين لمفهوم الدولة المعاصرة بطريقة مغلوطة، فقد أسقط عليها مفاهيمه هو عن الفرد، وتعامل معها إما عن طريق الرأس (الزعيم)، أو عن طريق التعامل مع الدولة (كفرد واحد) بحيث إنها تصلح أو تفسد، (تؤمن أو تكفر) في الواقع فإن الدولة نفسها تعج بالتناقضات، وصراع القوى والمصالح الداخلية، إنها تعبر عن علاقات، أكثر ما تعبر عن فرد، أو عن كونها فردًا بذاتها.
وهذا نفسه ينطبق على القانون، فلما تم التعامل مع الدولة كفرد، نظر إلى العديد من قوانينها، على أنها قناعة، في حين إنها تعاقد، وللتفريق بين الأمرين، يحسن النظر إلى اعتقاد رجل بأن محمدًا هو رجل ولده آخر اسمه عبد الله، فهذا لا يكون مؤمنًا بمجرد هذا، لكن في العلاقات سيختلف النظر لهذا، ففي صلح الحديبية، كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله مع سهيل بن عمرو) لما رفض سهيل أن يكتب محمد رسول الله، فهذه الصيغة التوافقية، كانت من جهة قريش كفرًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته كذلك، فهذا في علاقة، لا في فرد، وإسقاط تصور الفرد لهذا سيمسح هذا الفرق، وبالتالي ما يقبح من الفرد سيقبح في العلاقات، وعندها تحدث الإشكاليات، ويقع المرء في تصور أفلاطون لمفهوم الجمهورية، كما يرى النفس الفردية.
كان الحديث عن الفرد ودوره مدعاة للغلو أحيانًا كثيرة في العديد من الأشخاص، وهذا ما دفع العديد لنقدهم وحتى ذمهم لكسر ذلك الغلو فيهم كما قال المعلمي، فذلك يقول في إمامه الذي يتبعه كل حديث ليس في مذهبنا إما مؤول أو منسوخ، ونحو هذا، في تبعية مبالغ فيها للأفراد، والغلو لا يشترط أن يصل إلى درجة العبادة كما قد يفهمه البعض، ففرق بين الإثبات والحصر كما سبق، فمن درجات الغلو العبادة، ولكن ليست هي درجة وحيدة فيه.
ومثال هذا من يغالي في مشايخهم، كالاعتقاد بأنه بز المتقدمين والمتأخرين، أو الاعتقاد بأنه بلغ من العلم والمعرفة ما لم يبلغه المعظم عنده، ويحضرني مثال لهذا، فقد قال لنا مرة أحد المتخصصين بالفقه بأن الشيخ ابن باز كان يحفظ الكتب الستة، والواقع أنه لم يكن قد قرأها كلها حتى يحفظها عن ظهر قلب، كما قال هو نفسه في (سؤالات ابن وهف) وهي مطبوعة ومرفوعة على الشبكة، فهذا من صور الغلو.
أو تلك الشهادات التي توزع بالمجان على بعض الطلبة لمجرد أنهم حضروا عند شيخ، فيصفه بالمتقدم، والجاد، وطالب العلم المتقدم من باب المجاملات، أو قد تكون لأنه لا يخرج عن رأي من يشهد له قيد أنملة، بحيث يكون نسخة عنه، وهذا كله دوران في دور الفرد المبالغ فيه في التاريخ، والاجتماع والسياسة ونحو ذلك.
ومن ذلك تحميل الأفراد فوق ما يحتملوه، كالقول لهم خطأ (الداعية) بألف، ونحو ذلك، وهذا كله لم يدل عليه دليل، فـ (الداعية المفترض) ليس طبقة مخالفة لعموم المسلمين، وقد يكون شابًا في ريعان شبابه، حتى يقال فيه هذا، ولا يفترض الخضوع لسلطة الخطاب العلماني بالتفريق بين رجل الدين وغيره، فليس هو مختلفًا عن الفضل بن العباس، أو أبي بكرة، أو ماعز، ونحو ذلك، حتى يقال فيه هذا، ومع ذلك لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته مثل هذا، مع أن الناس ينظرون إليهم كنظر النسر إلى اللحم وقتها، ويعايرونهم بأقل القليل، كقولهم : (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه).
إن التركيز على جانب العلاقات بين الأفراد قد لا ينتج صالحين، كما هو الحال في التزكية والتربية والتصفية ونحو هذا، لكنه يمنع الفساد قدر الطاقة، حتى ولو أراد الفرد الفساد سيخشى من علاقة (الرقابة) في النظام الذي يعمل به، إنها تفرز نظامًا قويًا، أما في جانب الأفراد فقد تنتج صالحين، ولكن عند الحديث عن العلاقات، لن تضمن أن يستمر في صلاحه عندما يوضع في موقع مسؤول، وبنفس الوقت، لا آلية حقيقية لمنع فساد الفاسد ولا دحر نفوذه، وقد تنبه أوليفيه راوا لهذه القضية، فقال غلب عليهم عقل الفرد لا المؤسسة.
إن الحديث عن الفرد مطولًا انعكس على فهم الكثيرين لمفهوم الدولة المعاصرة بطريقة مغلوطة، فقد أسقط عليها مفاهيمه هو عن الفرد، وتعامل معها إما عن طريق الرأس (الزعيم)، أو عن طريق التعامل مع الدولة (كفرد واحد) بحيث إنها تصلح أو تفسد، (تؤمن أو تكفر) في الواقع فإن الدولة نفسها تعج بالتناقضات، وصراع القوى والمصالح الداخلية، إنها تعبر عن علاقات، أكثر ما تعبر عن فرد، أو عن كونها فردًا بذاتها.
وهذا نفسه ينطبق على القانون، فلما تم التعامل مع الدولة كفرد، نظر إلى العديد من قوانينها، على أنها قناعة، في حين إنها تعاقد، وللتفريق بين الأمرين، يحسن النظر إلى اعتقاد رجل بأن محمدًا هو رجل ولده آخر اسمه عبد الله، فهذا لا يكون مؤمنًا بمجرد هذا، لكن في العلاقات سيختلف النظر لهذا، ففي صلح الحديبية، كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم (هذا ما تعاهد عليه محمد بن عبد الله مع سهيل بن عمرو) لما رفض سهيل أن يكتب محمد رسول الله، فهذه الصيغة التوافقية، كانت من جهة قريش كفرًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته كذلك، فهذا في علاقة، لا في فرد، وإسقاط تصور الفرد لهذا سيمسح هذا الفرق، وبالتالي ما يقبح من الفرد سيقبح في العلاقات، وعندها تحدث الإشكاليات، ويقع المرء في تصور أفلاطون لمفهوم الجمهورية، كما يرى النفس الفردية.
كان الحديث عن الفرد ودوره مدعاة للغلو أحيانًا كثيرة في العديد من الأشخاص، وهذا ما دفع العديد لنقدهم وحتى ذمهم لكسر ذلك الغلو فيهم كما قال المعلمي، فذلك يقول في إمامه الذي يتبعه كل حديث ليس في مذهبنا إما مؤول أو منسوخ، ونحو هذا، في تبعية مبالغ فيها للأفراد، والغلو لا يشترط أن يصل إلى درجة العبادة كما قد يفهمه البعض، ففرق بين الإثبات والحصر كما سبق، فمن درجات الغلو العبادة، ولكن ليست هي درجة وحيدة فيه.
ومثال هذا من يغالي في مشايخهم، كالاعتقاد بأنه بز المتقدمين والمتأخرين، أو الاعتقاد بأنه بلغ من العلم والمعرفة ما لم يبلغه المعظم عنده، ويحضرني مثال لهذا، فقد قال لنا مرة أحد المتخصصين بالفقه بأن الشيخ ابن باز كان يحفظ الكتب الستة، والواقع أنه لم يكن قد قرأها كلها حتى يحفظها عن ظهر قلب، كما قال هو نفسه في (سؤالات ابن وهف) وهي مطبوعة ومرفوعة على الشبكة، فهذا من صور الغلو.
أو تلك الشهادات التي توزع بالمجان على بعض الطلبة لمجرد أنهم حضروا عند شيخ، فيصفه بالمتقدم، والجاد، وطالب العلم المتقدم من باب المجاملات، أو قد تكون لأنه لا يخرج عن رأي من يشهد له قيد أنملة، بحيث يكون نسخة عنه، وهذا كله دوران في دور الفرد المبالغ فيه في التاريخ، والاجتماع والسياسة ونحو ذلك.
ومن ذلك تحميل الأفراد فوق ما يحتملوه، كالقول لهم خطأ (الداعية) بألف، ونحو ذلك، وهذا كله لم يدل عليه دليل، فـ (الداعية المفترض) ليس طبقة مخالفة لعموم المسلمين، وقد يكون شابًا في ريعان شبابه، حتى يقال فيه هذا، ولا يفترض الخضوع لسلطة الخطاب العلماني بالتفريق بين رجل الدين وغيره، فليس هو مختلفًا عن الفضل بن العباس، أو أبي بكرة، أو ماعز، ونحو ذلك، حتى يقال فيه هذا، ومع ذلك لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته مثل هذا، مع أن الناس ينظرون إليهم كنظر النسر إلى اللحم وقتها، ويعايرونهم بأقل القليل، كقولهم : (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه).